أخبار
السودان في منعطف جديد .. معارك الحسم العسكري وتسابق مشروع التقسيم

منذ أن ملك الجيش السوداني والقوات المساندة له زمام المبادرة في ميدان الحرب، في نهايات العام الماضي، بدأ تراجع الدعم السريع وهزائمه المتتالية، وتقلصت مساحة سيطرته، شيئا فشيئا، عندها بلغ ذروة عدوانيته وبطشه ضد المدنيين العزل في مختلف المناطق التي سيطر عليها انتقاما وبثا للخوف والرعب ضد ما يعتقد أنهم متعاونين مع الجيش على الرغم من تصاعد وتيرة الدعم العسكري الكمي والنوعي له، ما دفع حلفاءه للدفع بمحاولات انقاذه وترميم صورته، عبر مشروع نيروبي الذي يهدف إلى خلق تحالفات جديدة، تضيف زخما جديداً له.
مقدمات مهمة
معركة جبل مويه ــ كنقطة تحول
تعتبر معركة جبل مويه بالنسبة لمسار الحرب، واقعة حاسمة، لا تقل أهمية في تأثيرها من الضربات الأولى التي وجهها الجيش ضد الدعم السريع صبيحة الخامس عشر من ابريل يوم شرارة الحرب الأولى والتي بعثرت كثير من أوراق الدعم السريع، فقد كانت معركة جبل مويه قاصمة، لم تتماسك بعدها قوات الدعم السريع، وقد بدا ذلك واضحا في ردود الفعل العنيفة والاتهامات التي طالت دولا خارجية مثل مصر، حيث اتهم قائد الدعم السريع حميدتي مصر صراحة اتهاما مباشرا بقصف قواته في جبل مويه، وذلك لما يمثله الموقع الاستراتيجي لمنطقة جبل مويه، وتحكمه في عدد من الطرق التي تربط أغلب الولايات بل ودل الجوار، فخسارة هذه المنطقة شكل انتكاسا حقيقيا لتقدم القوات التي كانت تتجه إلى ولايات شرق السودان والمناطق المتاخمة لدولة جنوب السودان وإثيوبيا، واعتبرت بذلك من الناحية العسكرية والاستراتيجية نقطة تحول في مسار الحرب والمساك بزمام المبادرة واختلال موازين القوة.
انشقاقات متتالية
في أكتوبر الماضي أعلن اللواء أبو عاقلة كيكل انشقاقه من الدعم السريع، وانضمامه للجيش مع عدد كبير من قواته، وهو أحد قيادات ما عرف بقوات درع السودان التي انضمت إلى الدعم السريع في أغسطس 2024، واستعداده القنال إلى جانب الجيش، كما صاحب انشقاق كيكل انشقاق عدد من مستشاري الدعم السريع السياسيين، ما أحدث هزة كبيرة داخل صفوف الدعم السريع ومؤيديه، وذهبت تحليلات عديدة إلى استعداد آخرين من قادة الدعم السريع، للانضمام للجيش، وينتظرون الفرصة المناسبة. أربكت هذه الأحداث السريع، وهزت أركانه بقوة، خاصة في غياب قائده الذي أصبح شبحاً أقرب إلى الخيال من طول غيابه، وهو الذي ظل في قلب الأحداث وعواصفها قبل بدء الحرب، يرغي ويزبد ويتوعد، مفتونا واثقاً من الحسم في كل الأحوال. شكلت هذه الحادثة منعطفا مهما في سلسلة هزائم الدعم السريع وارتباك صفوفه على مختلف المستويات.
اختلالات في الصف القيادي
فقدت قوات الدعم السريع في الشهور الأخيرة عددا غير قليل من قيادته العليا والمتوسطة، التي تدير العمليات العسكرية اليومية، ما أثر على سير المعارك ونتائجها على جبهة الدعم السريع، وقد تباينت التحليلات حول الأسباب التي تقف وراء ذلك، ولكن أيا كانت الأسباب، فإن آثار مقتل عدد كبير من الصفوف القيادية القليلة أصلاً، أصاب مليشيا الدعم السريع بأضرار بليغة، أدت في نهاية الأمر إلى مزيد من الهزائم والتراجع على المستوى الميداني.
منعطف نيروبي وفك حصار الأبيض
شهدت الايام القليلة الماضية تطورات غاية في الأهمية تحمل أبعاداً جديدة ومختلفة في ملف الأزمة السودانية، نتناولهما بالتحليل لما تشكله من أبعاد مفصلية في مستقبل السودان، في أبعاده المختلفة، وما سيتبعها من تداعيات على الخارطة السياسية المستقبلية.
1. فك حصار الأبيض
2. لقاء نيروبي
البعد الاستراتيجي لفك حصار الأبيض
تناول المحللون والاستراتيجيون في الفترة المنصرمة، أهمية واستراتيجية ولاية سنار، وما تشكله منطقة جبل مويه في البعد العسكري، باعتبارها موقعا محوريا وكنقطة تحكم والتقاء لعدد من الطرق التي تربط الولايات المختلفة، وتمتد إلى أبعد من ذلك لتتصل ببعض دول الجوار، وإن السيطرة عليها يعني التحكم في طرق الإمداد، والدعم اللوجستي، وبالأمس القريب تكرر ذات المشهد بفك الحصار عن مدينة الأبيض التي لا تقل أهمية عن جبل مويه، بالنسبة للمناطق التي ترتبط بها استراتيجيا، وهنا نفهم حرص الدعم السريع على إدامة الحصار عليها منذ اندلاع الحرب قبل ما يقرب من عامين، عندما فشل في اجتياحها والسيطرة عليها بفضل صمود قوات الهجانة المرابطة هناك، فما هي أهمية الأبيض وماذا تشكل في مسار الحرب، وإلى أين يتوقع أن تتجه الأحداث في الفترة القادمة.
دلالات فك حصار الأبيض
يجمع المحللون العسكريون على أن فك الحصار عن مدينة الأبيض يشكل علامة فارقة في سير العمليات العسكرية ضد قوات الدعم السريع، ونقلة نوعية، تمهد لإعادة مصفوفة الأهداف وتراتبيتها لدى القادة المخططين والميدانيين، حيث لم يتبقى في ولاية الخرطوم والجزيرة إلا بعض الجيوب، فماذا هذه الأهمية:
يقول العميد ركن عبد الرحمن باشري، إن دخول متحرك الصياد مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان، التي ظلت تحت الحصار منذ اليوم الأول للحرب، وأهميتها الاستراتيجية والعسكرية الذي سيحدث فرقا في حسم التمرد وقطع خطوط إمداده العسكري والبشري:
• الأهمية الجغرافية: ترتبط مدينة الأبيض بشبكة طرق برية وخطوط ملاحة جوبة مع معظم بقاع السودان، وأهم هذه الطرق:
♦ طريق الصادرات الذي يربط الأبيض بمدينة بارا وصولاً إلى أم درمان التي تشكل المثلث الغربي للعاصمة الخرطوم
♦ طريق الأبيض الذي يصل مدينة أم روابه ومن ثم مدينة كوستي وصولاً إلى العاصمة الخرطوم أو ولاية سنار ومدينة مدني في الوسط ليمتد إلى ولاية القضارف شرقي البلاد و كسلا وبورتسودان
♦ طريق الأبيض الواصل مدينة النهود شمالا ومن ثم إلى مدينة الفاشر المحاصرة
♦ طريق الابيض الواصل إلى مدينة الدلنج جنوب كردفان وصولا إلى مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان
♦ وغيرها من الطرق الأخرى التي تصل مدينة الأبيض بالولايات الأخرى
• الأهمية العسكرية: تكتسب الأبيض الأهمية العسكرية لكونها المنطقة الأقرب لولايات دارفور الكبرى وبالأبيض مطار عسكري، يمكن أن يشكل مركزا قتاليا لوجستيا متقدما يسهم بشكل فعال في نقل ميدان المعركة إلى ولايات دارفور الكبرى، وهي المرحلة الفاصلة في الحرب الدائرة في السودان
• الأهمية الاقتصادية: تكتسب الأبيض أهميتها الاقتصادية من وجود واحدة من أكبر بورصات المحاصيل الزراعية وظلت تنتج وتصدر أهم المحاصيل الزراعية مثل الصمغ العربي والسمسم والدخن والكركدي وحب البطيخ والفول السوداني وغيرها إضافة للثروة الحيوانيّة الكبيرة التب تتمتع بها المنطقة.
وحول دلالات عودة الأبيض وفك حصارها يقول الدكتور إبراهيم الصديق علي في صحيفة كواليس: انها تمثل 50% من المسافة ما بين الخرطوم وبين دارفور مركز وحواضن المليشيا، وبلغة العسكريين ، هذا تحول كبير، لأن الـ 50% الأولى تعتبر المرحلة الأصعب، حيث كانت المليشيا في عنفوانها وكامل قدراتها وكل قادتها وحواضنها الاجتماعية، بينما اليوم تم تشتيت قدراتها وشل فاعليتها واستنزاف طاقاتها وهلاك قادتها وسحب الغطاء المجتمعي..
ثانيا: سهولة المدد العسكري واللوجستي، وستكون الأبيض – دون شك – مركز قتالي متقدم، تتوفر فيه كل الشروط، طرق معبدة، ومطار مكتمل، وقوة عسكرية ذات خبرة طويلة.
ثالثا: قطع طرق إمداد العدو إلى الخرطوم، مع الانفتاح ناحية جبرة الشيخ وبارا ، ورصد أي إمداد من خلال المطارات الترابية.
يؤذن هذا بانتهاء الحرب في العاصمة الخرطوم وانتقال المعركة إلى دارفور وهي الأسباب التي دفعت بعض القوى أن تحاول تجميع ما تبقى من بعض القوة السياسية والاجتماعية المتحالفة مع الدعم السريع، وحلفاءها الإقليميين، بالبحث عن مخرج في مواجهة المعركة الحتمية في دارفور وهو ما سنناقشه في العنوان التالي.
مشروع نيروبي هل هو انقاذ الدعم السريع ام مسار تقسيم
في ظل الهزائم المتكررة والتقدم اليومي للجيش والقوات المساندة له على كافة المحاور القتالية، بادرت القوى السياسية المتحالفة مع الدعم السريع، وحلفاءها الإقليميين، ابتداء بالإمارات العربية وكينيا، اللتين تبنتا دعم المؤتمر الذي أطلق عليه التأسيسي، إضافة إلى بعض الأطراف التي لا تجرؤ على إعلان دعمها لهذا اللقاء لأسباب معروفة، وهي محاولة ضخ حياة جديدة وبعث الروح المعنوية لقادة الدعم السريع فما هي أبرز الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها هذه المحاولة:
♦ إسناد الدعم السريع عسكرياً بخلق تحالفات مع بعض الأطراف التي ظلت بعيدة عن المشهد، مثل حركة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية ــ شمال التي يقودها عبد العزيز الحلو والتي تتمركز في جنوب كردفان بينما تتمركز قوات عبد الواحد في دارفور، فإذا ما قدر للطرفين أن يتحالفا مع الدعم السريع، ربما تضيف زخما عسكريا لصالح الدعم السريع، مع توسيع رقعة جبهات المواجهة وبالتتالي استنزاف الجيش وتأخير الحسم النهائي.
♦ إيجاد شرعية واقعية لقوات الدعم السريع، في مناطق سيطرتها، وخلق واقع أشبه بالوضع الليبي، وهو ما يعني استمرار الحرب أو في أسوأ الاحتمالات، في حال فشل التوصل إلى حل وسط الدعوة إلى الانفصال، وقد يتطور الأمر إلى تسويق المشروع لأطراف خارجية.
♦ خلق سياقات ومبررات لتوفير أاسلحة نوعية، كما جرى مع حفتر في ليبيا حيث امتلك قوة ردع نوعية تمكنه من الوقوف في وجه اي قوة تستهدف إضعافه أو اي محاولة لإنهاء سيطرته على شطر من البلاد، في ظل وجود دول في الجوار السوداني، تكبلها الإمارات باتفاقيات ودعم مالي تصادر بموجبه قراراتها وتهيمن على سياساتها الخارجية.
♦ منع اي احتمال لانشقاقات أخرى من الدعم السريع، أو تراجع التأييد من بعض الحواضن الاجتماعية في دارفور وكردفان، وقطع الطريق على اي عمل من هذا النوع، وإعاقة الجيش من تحقيق نصر كاسح فيما تبقى من المناطق التي تسيطر عليها قوات المليشيا إن لم يكن منعه تماما.
تداعيات مشروع نيروبي
يدرك المتابع للشأن السوداني في الفترة الأخيرة، تزايد الانقسامات وتباين المواقف الحادة، ويعتقد المراقبون أن إعلان نيروبي سيزيد فرز المواقف والاصطفافات، أكثر من أي وقت مضى، كما أن الأحزاب وبعض المكونات القبلية ستشهد انشقاقات مماثلة جراء الإلحاحات الراهنة. ويتوقع المحللون بأن يمضي الفريق البرهان وطاقمه في إعلان الحكومة بناء على التعديلات التي جرت في الأسابيع الأخيرة، بينما يحاول الموقعون على إعلان نيروبي في المضي في حشد التأييد وكسب الشرعية الواقعية، من القوى الدولية التي تقف وراء محولات تفتيت السودان.
سيناريوهات
سعت القوى الدولية والإقليمية التي تقف وراء الدعم السريع، وحاضنته السياسية “قوى الحرية والتغيير” في إعادة تشكيل السودان، وفق فلسفة تحقق أهدافها، ولكن في حال فشل ذلك فإن ورقة فصل دارفور هي البديل، رغم أن الخطاب الذي تبنته المجموعة في نيروبي يشير إلى سودان موحد تحت سيطرتها وحكمها.
خاتمة
في الوقت الذي اجتمع فيه اصحاب مشروع الحكومة الموازية في نيروبي لإعلان ما أطلقوا عليه تأسيس السودان الجديد، تتدافع متحركات الجيش السوادني والقوى المساندة له، نحو الغرب من كل الاتجاهات، فيما يعتقد أنه تصميم من قبل قيادة الجيش على الحسم السريع قبل تفاقم تداعيات إعلان نيروبي وانتقال المعركة إلى ابعاد أخرى أكثر خطورة وأعمق تأزيما.
بعد ما يقرب من عامين من الحرب التي لم تتوقف، يشهد السودان مرحلة جديدة، ومنعطف هام في تاريخه، سيكون له تأثير كبير على تشكلات الساحة السياسية في السودان مستقبلاً، فهل نحن على موعد مع مفاجآت بشأن تداعيات ونتائج الحرب الميدانية، وتطورات ما جرى في نيروبي، أياً كانت الأحوال فإن رياح هذا الشتاء الذي يغادرنا ربما تحمل تحولات مثيرة وكثيرة في الشأن السوداني على مختلف المستويات.