أخبار
تعويم البر الإثيوبي
أعلنت الحكومة الإثيوبية في التاسع والعشرين من الشهر الماضي حزمة إصلاحات جديدة اقتضتها الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ ما يقرب من أربع سنوات، فشلت معها كل الجهود التي بذلتها حكومة رئيس الوزراء أبي أحمد، وبعد شهور من التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أعلنت تعويم عملتها التي تسمى” بِرْ” لتدخل إثيوبيا مرحلة جديدة من دورتها الاقتصادية، وربما السياسية ايضا لأسباب سنأتي على تحليلها.
كان أول قرارات الحكومة الإثيوبية في حزمة الإصلاحات هو تخفيض العملة “البر الإثيوبي” بنسبة 30% وإلغاء سعر الفائدة الثابت للبنك المركزي، ويهدف القرار وفق الحكومة الإثيوبية، إلى معالجة النقص الحاد في العملات الأجنبية في البلاد، ويعتبر القرار جزءً من اتفاق الحكومة الإثيوبية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحصل بموجبه على قروض تصل إلى 20 مليار دولار. وسنحلل الأمر على عدد من المحاور للتعرف على جوانب الخطوة التي اتخذتها إثيوبيا مؤخراً.
سياقات القرار
تعاني إثيوبيا صعوبات اقتصادية منذ بدء الحرب في إقليم التقراي، حيث تعطلت عجلة الانتاج في كثير من الأقاليم التي عانت الاضرابات والحروب الداخلية، كما تم توجيه كل القدرات للمجهود الحربي مع تأثر المشروعات الاستثمارية الكبيرة التي تدار من قبل المستثمرين الأجانب، واصبحت إثيوبيا بالتالي ثالث دولة إفريقية تتخلف عن سداد ديونها الحكومية في السنوات الأخيرة، ما اسهم في خفض تصنيفها الائتماني في 2023، ضمن المنطقة ” غير المرغوب فيها ” من قبل وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، مع ديون تثقل كاهل الخزينة، حيث تفيد الإحصائيات أن الدين الحكومي يساوي 38% من الناتج الإجمالي للبلاد في 2023، ويبلغ الدين الخارجي لإثيوبيا 64 مليار دولار وفقا لتقارير دولية، وبلغ معدل التضخم في إثيوبيا 30% في 2023، وفقا لتقارير البنك الدولي لمؤشر التنمية وهو أدني مما بلغه في 2022، وهي نسبة 34% ويواجه الاقتصاد الإثيوبي عددا من المشكلات:
• نقص حاد في النقد الأجنبي
• زيادة مخاطر الديون الخارجية مع تعثر واضح في السداد
• تزايد الضعف في القطاع المالي
• ارتفاع التضخم
• انعدام الحصول على تمويل القطاع الخاص
• سوء تخصيص الموارد بسبب الظروف الداخلية التي تواجهها إثيوبيا
في مارس 2024 زار فريق من صندوق النقد الدولي إثيوبيا لمناقشة برنامج مساعدات محتمل بمقدار 10,5 مليار دولار أمريكي، لمدة أربعة سنوات من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، وتتضمن الحزمة الإجمالية قروضا بقيمة 3,5 مليار دولار من صندوق النقد الدولي وحوالي 3,5 أخرى من جهات عدة خاصة البنك الدولي، و3,5 مليار من أجل إعادة هيكلة الديون.
جرت المناقشات لفترة طويلة وظلت المؤسسات الدولية تراقب الوضع في إثيوبيا بالذات فيما يلي الاستقرار الأمني والسياسي، وركزت على عدد من المجالات، وتم الاتفاق على مجموعة سياسات:
1. الانتقال إلى سعر صرف تحدده السوق للمساعدة في معالجة الاختلالات الخارجية وتخفيف نقص النقد الأجنبي.
2. مكافحة التضخم من خلال تحديث إطار السياسة النقدية، والقضاء على التمويل النقدي للميزانية، والحد من القمع المالي
3. خلق مساحة للإنفاق العام ذي الأولوية من خلال تعبئة الإيرادات المحلية
4. استعادة استدامة الدين، بما في ذلك من خلال تأمين اتفاقيات إعادة هيكلة الديون في الوقت المناسب مع الدائنين الخارجيين.
5. تعزيز الوضع المالي للشركات المملوكة للدولة لمعالجة نقاط الضعف المالية الكلية الحرجة.
تعويم العملة مفتاح البرنامج
يرى صندوق النقد الدولي أن الانتقال إلى سعر الصرف الذي يحدده السوق وإزالة القيود المفروضة على الحساب الجاري وتحديث إطار السياسة النقدية للسيطرة على التضخم تعتبر خطوات حاسمة، ويتضح من خلال هذا الراي الصريح ان تعويم العملة هو لمدخل إلى بقية الحزمة الإصلاحية التي تم الاتفاق عليها، وهو ما يعني بعبارة أخرى تحرير سعر الصرف بالكامل، بحيث لا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي من تحديده بشكل مباشر و كما إن أجندة الإصلاح الهيكلي الطموحة والشاملة التي وضعتها السلطات المحلية سوف تركز على تحسين الحوكمة وتقديم الخدمات العامة، والقدرة التنافسية، ومناخ الأعمال، لتحفيز النمو بقيادة القطاع الخاص والمساهمة في الحد من الفقر ورفع مستويات المعيشة، حسب صندوق النقد الدولي
أولويات الإصلاح عند الحكومة الإثيوبية
الهدف الرئيسي الذي تسعى إليه إثيوبيا من هذه الإصلاحات هو الاستقرار الاقتصادي الكلي وإعادة التوازن واستدامة النمو من خلال معالجة قيمة العملة والتضخم، وهو ما سيتيح تشجيع الرساميل الأجنبية والمستثمرين الكبار، بعد المصاعب التي واجهتها الحكومة الإثيوبية في جدولة ديونها، مع تراجع الاقتصاد في البلاد لأسباب عديدة، لم تجد بداً من اللجوء إلى المؤسسات الدولية المانحة، والتي لديها وصفات معروفة خاصة عندما تتعامل مع الاقتصادات الناشئة، وترى الحكومة أنها ستحقق حزمة أهداف من وراء هذه الصفقة:
1. أن هذه الخطوة ستجلب مزيداً من الاستثمارات الدولية وأن إثيوبيا ستكون جهة جذابة للمستثمرين الأجانب طالما دَعَوْا إلى مثل هذه الخطوات
2. تعتقد الحكومة الإثيوبية ودائنوها، أن التحرير سيساعد القطاع الخاص على تقديم مساهمة أكبر في الاقتصاد وسيعمل على تعزيز النمو على المدى الطويل.
3. سد الفجوة بين أسعار السوق الرسمية والسوق السوداء، وليس المقصود تخفيض العملة حسب رأي رئيس الوزراء أبي أحمد
4. تحفيز التمويل الخارجي الإضافي من شركاء التنمية وتوفير إطار لإتمام إعادة هيكلة الديون الجارية بنجاح
توقعات الحكومة الإثيوبية
بتطبيق حزمة الاصلاحات التي تم الاتفاق عليها مع المؤسسات المانحة، فإن إثيوبيا تشتري بعض الوقت بهدف تحقيق غايات اقتصادية، رهينة بعدد من الشروط المحلية، مثل الاستقرار السياسي، والأمني، وتوفر البنية التحتية والتشريعات المحفزة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ولهذا، فإن توقعات الحكومة الإثيوبية كبيرة ورهاناتها عالية من ناحية التعويل على توظيف التسهيلات التي ستقدمها المؤسسات المانحة، فهي ترى بأنها ستحقق عدداً من الأهداف:
• ستحصل إثيوبيا على 16,5 مليار بعد تنفيذ الاصلاحات المتفق عليها والحصول على القسط الأول والبالغ 3,5، وفي حال نجاحها في المرحلة الأولى ةالتي يعتبرها الاقتصاديون من أحرج فترات الإصلاح للصدمة التي تتسبب فيها بالذات للقطاعات الضعيفة.
• من خلال إنشاء سعر صرف أكثر قابلية للتنبؤ ومستند إلى السوق، تأمل إثيوبيا في جذب الاستثمار الأجنبي وتعزيز نمو القطاع الخاص.
• تأمين التمويل الدولي: تتوقع إثيوبيا تلقي تمويل كبير من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومصادر أخرى لدعم هذه الإصلاحات والنمو الاقتصادي الإجمالي
• تحسين ميزان المدفوعات: تعويم العملة يمكن أن يساعد في تقليل العجز في ميزان المدفوعات من خلال زيادة الصادرات وتقليل الواردات، حيث تصبح المنتجات المحلية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية.
• تحقيق استقرار اقتصادي طويل الأمد: على الرغم من المخاطر القصيرة الأمد، تأمل الحكومة أن يؤدي تعويم العملة إلى تحقيق استقرار اقتصادي طويل الأمد من خلال تحسين كفاءة السوق وتعزيز الشفافية
مخاطر ومخاوف ومحاذير
ما لا شك فيه أن الخطوة التي لجأت إليها الحكومة الإثيوبية تنطوي على مخاطر هائلة، ومخاوف كبيرة، ذلك لأن الأوضاع الاقتصادية في إثيوبيا أقل من أن تحتمل الوصفات التي تعتمدها المؤسسات الدولية المانحة، خاصة في حال فشل الاصلاحات المقترحة، كما يصفه الاقتصاديون على أنه اقتصاد في مرحلة الانتقال، فضلا عن كونه اقتصاد تهيمن عليه الحكومة، فما هي المخاطر التي تحيط بالخطوة:
• من أهم المخاطر التي ستواجه خطة الإصلاح هي ارتفاع الأسعار خاصة المواد التي تستورد من الخارج، أو تلك التي تستورد مدخلاتها الأولية من الخارج، ما سيخلق صعوبات أمام اصحاب الأعمال الصغيرة، والمجتمعات ذات المداخيل المحدودة.
• مخاوف التقلبات مع صعوبة التنبؤ، حيث يصعب تفسيرها بالنظريات الاقتصادية المألوفة، وهذا في حالة الاقتصادات الضعيفة ربما يخلق تعقيدات، يصعب السيطرة عليها ما يعيق تنفيذ الاصلاحات بالمستوى الذي تطمح إليه الأطراف المنخرطة فيه.
• زيادة معدلات الفقر في بلد يصنف من أفقر البلدان رغم القفزات التي تحققت في النمو بنسب تصل إلى 11% في بعض السنوات قبل، أن تعصف به الاضطرابات والحروب الداخلية التي تعانيها إثيوبيا منذ نوفمبر 2020، وما تزال نيرانها متصلة.
• زيادة تكاليف الانتاج بالنسبة للشركات الصغيرة، مما قد يؤدي إلى إضعاف قدرتها على المنافسة، وفي حل عدم تحسن الأحوال قد تخرج بشكل نهائي وهو خسارة بكل المعايير ويلقي بأعباء كبيرة على الحكومة لرعايتها من خلال تقديم دعومات تمكنها من البقاء في السباق.
تحديات التحول في إثيوبيا
رغم أن الذهاب في طريق التحول المطروح، فرضه تراجع أداء الاقتصاد الإثيوبي، والصعوبات التي يواجهها في معالجة الديون المتراكمة واستحقاقاتها، مع آمال عريضة لتدارك ما يمكن تداركه على المدى البعيد والمتوسط، إلا أن تحديات كبيرة تفق دونها، ولا يجب الاستهانة بها:
• تحدي الاستقرار السياسي: يأتي في مقدمة التحديات اليت إذا لم تتحقق فإن أي جهد يبذل في الاصلاح الاقتصادي لا معنى له، لأن عجلة الاقتصاد والاستثمارات الأجنبية لن تجازف بالعمل في بيئات مضطربة، بل وقد تتعرض لخسائر وبالتالي ينتفي هنا أهم عنصر يمكن البناء عليه.
• تحدي الاكتفاء الذاتي في الضرورات التي لا يستغنى عنها، بمعنى تقليل الواردات وتعظيم الصادرات وهو مفتاح الاصلاح الاقتصادي وتوظيف القروض لمعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي، على المدي البعيد، لأن خطة الاصلاح لا تركز على الراهن بقدر ما تحاول النظر بعيدا.
• تحسين الإدارة المالية وضبط الانفاق، وهي من أهم الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الإصلاح، وخفض الضرائب عل الشرائح الضعيفة، والتدرج في خصخصة الشركات المملوكة للحكومة، وتذليل العقبات البيروقراطية التي تمارسها الحكومات عادة، إذ أن النظام الاقتصادي في إثيوبيا منذ الحكومة التي قادها الراحل ميليس زيناوي تعتمد نظام اقتصاد تسيطر عليه الحكومة.
خاتمة
لم يكن أمام الحكومة الإثيوبية ترف الاختيار لتمضي في طريق تخفيض قيمة عملتها، خاصة وأن عبء الديون يثقل كاهلها، ولكن في ذات الوقت تدرك أن وصفة المؤسسات الدولية للاقتصادات الناشئة تعتبر تحديا يحمل مخاطر كبيرة خاصة وأن إثيوبيا تعيش حالة من الاضطرابات التي لم تهدأ منذ ما قبل صعود رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، وهي الظروف التي دفعته لمثل هذه المخاطرة، خاصة وأن عددا من الخبراء الإثيوبيين يشيرون إلى أن إثيوبيا لم تتهيأ لتنفيذ هكذا برنامج، وقد جاء في إفادات أحد الخبراء وهو المدير العام لغرفة التجارة والصناعة الأفريقية والخبير الاقتصادي الإثيوبي “كوبور غنا” متحدثا لوسائل الإعلام العربية حول تداعيات تعويم العملة المحلية، قائلا إنه لم يتوقع تنفيذ هذا القرار بهذه السرعة، مضيفا: “في بيئة الاقتصاد الكلي الحالية، فإن ترك الدولار يعني السماح للقلة بالاستفادة والمعاناة للكثيرين، واضاف أنه يصعب تنفيذ مثل هذه السياسات قبل ضمان السلام في جميع أنحاء البلاد، ثم خلق بيئة منتجة، والاستجابة للائتمان والإمدادات النقدية للشركات الصغيرة وكبار المستثمرين، وتقليل الفجوة الواسعة بين العرض والطلب.
المصدر / افروبوليسي