وقعت الصومال مع تركيا اتفاقيتين منفصلتين في شهري فبراير ومارس في العام الجاري، حيث الأولى وُقِّعت في 8 فبراير وهي اتفاقية اقتصادية ودفاعية خاصة في مجال الأمن البحري بينما الثانية تخص مجال الطاقة فقط ومستمدة عن الأولى الأساسية التي تشكل الإطار العام للاتفاقيتين، وتمّ توقيعها في 7 مارس 2024. وتمثل الاتفاقيتان تعبيراً سياسياً عن رغبة الصومال في نقل علاقتها مع تركيا من مربع المساعدة الأحادية الجانب من تركيا إلى مربع التعاون الاستراتيجي معها، كما أنهما تدخلان في إطار التقاء مصالحهما في منتصف الطريق والتعاون على درء المخاطر المحدقة على أمنهما القومي على المدى المنظور. وتختلف الاتفاقيتان الأخيرتان عن الاتفاقيات السابقة الموقعة بين الدولتين أنهما أكثر شموليةً وعمقا من الأخرى وتعطي للدولتين مكاسب سياسية متقاربة وعوائد اقتصادية متوازنة إلى حد ما، أو بمعنى آخر، فإن محور الاتفاقيتين هما: الاقتصاد والأمن اللذان يمثلان حجر الزاوية في دعائم صناعة القرار السياسي للبلدين في المرحلة الحالية.
ويدفع دخول الدولتين في اتفاقيات من هذا النوع ما يسود بينهما من تحديات موحّدة ومواقف إيجابية متبادلة سابقا وقواسم مشتركة تشجعهما على التوسع في مجالات التعاون الثنائي فيما بينهما والتعاضد في مواجهة تحدياتهما المشتركة. وتميز تعامل تركيا مع الصومال بطابع خاص تقوده مشاعر إنسانية دافقة مختلطة ببراغماتية سياسية ومشفوعة بتصورات جيواستراتيجية يحدّدها الموقع الجغرافي المتميز في الصومال وتحكمها المعطيات الإقليمية والتطورات الميدانية. والاتفاقيتان الأخيرتان تؤشران إلى دلالات هامة في توقيتهما الزمني ومرتبطان بسياق سياسي عام تعتمدها تركيا في علاقاتها مع دول جنوب الصحراء في القارة السمراء، وتحقق للدولتين مكاسب جديدة في رصيدهما السياسي على المدى المنظور كما أنهما يحملان في مضمونهما مخاطر جدية على الاستقرار الهش في المنطقة نتيجة خلقها على اصطفافات إقليمية جديدة تؤثر سلبا على آفاق العلاقة المستقبلية فيما بين الدول في المنطقة وكذلك مستقبل العلاقة السياسية بين الدولتين في حالة تراجع أحدهما عن الالتزام المشترك في البنود الموضحة على الاتفاقيتين.
السمات المشتركة بين الدولتين
نادراً ما يمكن وجود دول أخرى منتمية إلى العالم الإسلامي تتوافر فيها السمات أوالقواسم المشتركة بين الصومال وتركيا رغم التباعد الجغرافي وعدم استدامة العلاقة التاريخية بينهما في كثير من القرون. وطبيعة السمات المشتركة السائدة بين الدولتين متشعبة ومتقاربة إلى درجة التماثل في بعض الحالات، و تدخل إلى أكثر من مجالات محورية تشمل في المجال الجغرافي والتاريخي والثقافي والبناء الاجتماعي والسياسي. وتبدأ تلك السمات بموقعهما الجيوسياسي المتميز، حيث أن الدولتان تقعان في منطقة جغرافية حدية بين العالم الإسلامي و العالم الغير الإسلامي، ومتوسطة مصنّفة على أنها من أهم المناطق الأربعة الأكثر أهمية على الإطلاق في الخريطة السياسية الدولية: البلقان والشرق الأدنى والقوقاز والخليج مقابل الصومال الواقعة بين منطقة الخليج وأفريقيا الشرقية وخليج عدن ومفتوحة إلى البحر الأحمر وذلك لاعتبارات جيوبوليتيكية وسيو- اقتصادية. وتمرّ تلك المنطقتين الجغرافيتين المتميزتين بممرات بحرية حيوية تعبر به المصالح الحيوية الدولية وتشكل رابطا جغرافيا يربط عالم المركز بالعالم المحيط الآخر. والدولتان مطلتان على مسطحات مائية فائقة الأهمية في مواقعها الوسطى، وغنية بالموارد البحرية حيث أن تركيا مطلة على البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود مقابل الصومال المطلة على المحيط الهندي وخليح عدن وبحر العرب بمسافات هي الأطول على مستوى القارة (3330كم).
وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك تشابها في التميز العرقي المنفرد تماما في منطقتيهما والتجانس العرقي والديني في مكوناتهما الاجتماعية وأكثرية الفئة العمرية الشابة في تركيبتهما السكانية فضلا عن عدم الاندماج الكامل مع جارهما الإقليمي نتيجة الوجود الاستعماري البريطاني السابق في المنطقة، ومن ثمّ أدى ذلك إلى وجود حالة من الانفصال بين تاريخهما السياسي العريق وخرائطهما السياسية المعاصرة . والسمة المشتركة الأخرى هي أن الدولتين لهما سجل تاريخي ناصع في حماية حدود العالم الإسلامي من التفاتات القوى الأوروبية الاستعمارية المستهدفة بالوصول إلى مقدساته والاحتلال على مدنه الرمزية سواء في الشام أو في منطقة القرن الإفريقي، وقدمتا تضحيات جسيمة من أجل تحصين الهوية الإسلامية في منطقتيهما والتساند في منع الاقتراب من الطرق البحرية والبرية المؤدية إلى الأراضي المقدسة المتمثلة بالحرمين الشريفين في القرون الوسطى وشكلتا حاجزا بشريا مانعا في التحام القوى الغازية مع القوى المحلية، وذلك بداء من ظهور الدولة العثمانية في نهاية القرن الثالث عشر، وهو أمر جعل الصفة الغالبة في الشخصية التركية والصومالية في وضع ترادف اسمهما بالدفاع عن الإسلام في منطقتيهما على مرّ التاريخ و ذلك رغم التباعد في مواقعهما الجغرافية.
والسمة المشتركة الأخرى هي أن الدولتين لهما امتدادات عرقية وفرّت لهما عمقا سياسيا في ارتباطاتهما الإقليمية واصبحت محورا أساسيا مؤثرا في العلاقة السياسية بينها وبين تلك الدول المجاورة وهي امتدادات فرضها الاستعمار الأوروبي البريطاني والظروف السياسية السائدة في عهد دولتهما الوطنية. ويتصل بهذا ما تملكه الدولتان من جاليات كبيرة نشطة جدا في مهجرها ومستمرة على الدعم في مواقفهما السياسية واقتصادهما الوطني حيث تعيش معظم الجالية التركية (6.5 مليون) في أوربا الغربية والصومالية في أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة في حدود أكثر من 2 مليون نسمة ويتجاوز حوالي 15% من السكان. وتشترك الدولتان أيضا التعافي من ترسبات حكم العسكر الشمولي، والسعي إلى تحقيق نظام حكم مدني يخضع فيه الجيش رقابة السلطة المدنية المنتخبة، وتجمعهما رؤية أن يكون العالم العربي–الإسلامي عمقهما الاستراتيجي وأن تكون علاقة هذا العالم معهما أكثر من وجود مصالح متغايرة أو عابرة فضلا عن تنسيق مواقفهما السياسية في المنصات الدولية بدأ من مناصرة القضية الفلسطينية وضرورة إصلاح الأمم المتحدة وصولا إلى أهمية فعالية دور منظمة التعاون الإسلامي باعتبار أنها ثاني أكبر تجمع دولي بعد الأمم المتحدة.
والسمة المشتركة الأخرى هي أن الدولتان تواجهان تهديدا حقيقيا متقاربا في الحفاظ على وحدتهما السياسية وتوترا مستمرا في علاقاتهما السياسية الإقليمية ويتعرضان إلى تحديات عائقة أمام تحقيق تطلعاتهما المندرجة في التعاون الثنائي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة اعتقادا على أن ذلك قد يعيد دورة الزمن إلى ما قبل العهد الاستعماري الأوروبي على المنطقة، ويقود إلى مطالبة التغيير في النظام السياسي الإقليمي المؤسس في مرحلة ما بعد الاستعمار في منطقتيهما. والسمة الأخيرة المشتركة هي أن شعب الدولتين عندهم اعتزاز عالي على هويتهما القومية وافتخار بانتمائهما إلى الأمة الإسلامية ويسود لديهم شعور عميق بالعراقة في تاريخهما السياسي واحساس بالعظمة في الصمود الطويل على البقاء في منطقتيهما والكفاح في الاحتفاظ على هويتهما الثقافية.
يخلق وجود تلك السمات المشتركة بين الدولتين شعورا مشتركا متقاربا بين أبناء الدولتين وعاطفة مجتمعية متبادلة أدت إلى تحول علاقاتهما السياسية إلى علاقة ودية خاصة ذات طابع أفقي غير متأثرة بالتجاذبات الحزبية والتغيرات السياسية الدورية، وهي علاقة جعلت الصوماليين أول من هبّ من خارج تركيا للمناصرة عليها في النجاة من انقلاب 2016 وأبدت تضامنا قويا معها في كارثة الزلزال الأخيرة الذي لحقت البلاد في 2023. ومن الملفت للنظر أن تركيا تنظر إلى الصومال بوصفها مركزا جيوسياسيا رئيسيا في المنطقة وتتعامل معها من منظور أنها الدولة المحورية في منطقة القرن الإفريقي والضامنة على استقرارها الأمني في المنطقة بأكملها، وهي حريصة على الحفاظ على وحدتها السياسية على أراضيها وملتزمة على دعم مؤسساتها الوطنية والتغلب على تحدياتها الأمنية سريعا، وتريد أن تتخذها بوابة رئيسية تدخل عن طريقها القارة بأكملها، ونموذجا عمليا ناجحا قابلا للتقديم عند ارتباطها في العلاقة مع دول القارة بشكل عام.
العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين
العلاقات الصومالية التركية قديمة وضاربة في جذورها إبان عهد الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، حيث أن شمال الصومال كانت ضمن أحد مناطق حكم الدولة العثمانية الخمسة في القارة. وبالطبع، كان الحكم العثماني قويا في شمال القارة وممتدا في الشرق وكان امتداده في الشرق مرتبطا بهدف منع الوصول إلى المقدسات الإسلامية من قبل القوى الأوروبية الملتفة بالقارة من الوراء وذلك عن طريق التعاون مع الممالك والسلطنات الإسلامية القوية في منطقة القرن الإفريقي والتي كان العرق الصومالي عمودها الفقري وبالذات في عهد سلطنتي عدل (1415-1577) وأجوران (من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر). وحديثا بدأت العلاقة الدبلوماسية الجديدة بين الدولتين في عام 1979م ، وكانت تركيا من ضمن قوات الأمم المتحدة العاملة في برنامج إعادة الأمل في الصومال بعد انهيار الدولة في عام 1991م ولكن الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان إلى مقديشو عام 2011 شكلت نقطة تحول رئيسية في العلاقة السياسية بين الصومال وتركيا، واتخذت العلاقات بعدها اتجاها تصاعديا، حيث وقعت الدولتان بعدها الكثير من الاتفاقيات ذات الصلة بالمجالات المختلفة في إدارات سياسية متعاقبة وتحقق الكثير منها على أرض الواقع. وتركيا غير متهمة بقيام دور انحيازي تقسيمي أو تفكيكي ودعم فصيل سياسي ما ضد آخر، وتؤكد دعمها الثابت إلى الدولة الصومالية الموحدة غير المجزأة ووقوفها على مسافة متساوية عن القوى السياسية الوطنية المختلفة بشكل دائم وتقدم الدعم الانساني للصوماليين عند الكوارث والأزمات الانسانية الصعبة وبذلت جهودا دبلوماسية جبارة في ردم الفجوة السياسية بين هرجيسا ومقديشو ودفعت إليهما باستمرار نحو الوصول إلى اتفاق تمهيدي يؤدي إلى خيار العودة الطوعية وجبر الوحدة المنكسرة بين الشمال والجنوب وذلك عن طريق جمع الطرفين على أراضيها في مرات أربعة.
وقدمت تركيا إلى الصومال أكثر من مليار دولار منذ عام 2011 على صورة مساعدات انسانية مباشرة، وقامت في بناء الشوارع والمستشفيات والمطارات وكذلك المباني الحكومية الرئيسية في العاصمة، كما أنها تدير المنافذ البحرية والجوية الرئيسية في العاصمة منذ عام 2014م( المطار والميناء) وأكبر مجمع صحي في الصومال (مستشفى أردوغان) إلى جانب دعمها السنوي في ميزانية الحكومات الوطنية. وتركيا من الدول الداعمة في قضايا إعفاء الديون المنتهية نهاية العام الماضي، ومشاركة ضمن قوات الناتو التي تعمل منذ الفترة على مراقبة المياه الصومالية وحمايتها من عودة القراصنة والإرهاب البحري وبينها وبين الصومال تبادلا تجاريا متزايدا يصل إلى 300 مليون دولار سنويا.
وتركيا تعتبر الصومال قصة تجاح حقيقية على طبيعة سياستها في المنطقة، ولها مكانة خاصة في وجدان تركيا بشكل عام ولا يوجد دولة في القارة قدمت ما قدمته تركيا للصومال في المجالات المختلفة سواء على مستوى الدعم الإنساني والتنموي والسياسي والاقتصادي. ويثبت ذلك ربما في أن لها في مقديشو أكبر سفارة مملوكة لها، وقاعدة عسكرية هي الأكبر أيضا خارج البلاد في مقديشو(TurkSom) والتي تخرج منها حتى الآن في حدود 15 ألف متدرب قاموا بأدوار مشهودة في معركة الإرهاب غير المتوقفة. وتركيا تدعم العمليات العسكرية المستمرة ضد الإرهاب منذ 2022 بالطرق المختلفة وتخرج آلاف من الطلبة في مدارسها وجامعاتها الوطنية المتنوعة في المجالين المدني والعسكري، ومنتجاتها الوطنية منتشرة على اتساع المحلات التجارية في البلاد ويوجد في البلاد آلاف الطلبة الذين يتحدثون على لغتها باعتزاز وفتحت مدارسها وجامعاتها الوطنية وبنوكها التجارية فروعا في الصومال، وخطوطها الجوية تأتي في البلاد بانتظام، وفقدت العديد من أبنائها في ميادين العمل المختلف في الصومال، مما يعنى أن الاتفاقيتين هما عبارة عن استحقاق سياسي حققته تركيا بمجهود تراكمي قامت بها سابقا ويعكس عن حصيلة استثمارات متعدد الأوجه ساعدها على الفوز بالقبول المجتمعي والإجماع الوطني والشراكة الحكومية الموثوقة .
الصومال جزء من اهتمام تركي عام في القارة
تأتي هاتان الاتفاقيتان في سياق استراتيجية تعزيز العلاقة الاقتصادية مع إفريقيا ويلتقي ضمن الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية التركية وبالذات مع دول جنوب الصحراء. ومن بعدها، تسعى تركيا إلى الحضور الفعال في القارة الإفريقية عبر قنوات العلاقات الثنائية ودبلوماسية القمة والعمل عن قرب مع الاتحاد الإفريقي التي فازت أن تكون عضوا مراقبا فيه منذ 2005 واعتبرها شريكا استراتيجيا لها في عام 2008. ويلاحظ تنامي الاهتمام المتبادل بين تركيا وإفريقيا من خلال عدد السفارات المتبادلة بينها وبين إفريقيا حيث بلغت سفارات تركيا في القارة إلى 49 سفارة من أصل 54 دولة بعد أن كان عدد سفاراتها 10 سفارات فقط في عام 2008 مقابل عدد السفارات من دول إفريقيا في أنقرة البالغ بـ 37، وتضاعف التبادل التجاري معها ست مرات منذ عام 2005 ليصل إلى ما يفوق بـ 47.8 مليار دولار عام 2021 مقارنة بـ 5.4 مليار عام 2003م. وتركيا تعمل بثبات بأن يصل حجم التبادل التجاري مع القارة إلى 50 مليار دولار قبل عام 2030م طبقا لاستراتيجية تنمية العلاقة التجارية والاقتصادية لإفريقيا المعتمدة من تركيا عام 2023 كما أن الصادرات التركية في القارة تجاوزت عن 25 مليار دولار في عام 2021 مسجلة بنمو يقدر بـ 33%، ناهيك عن حجم الاستثمارات المختلفة في القطاع الخاص الذي بلغ 50 مليار دولار عام 2019 والمشاريع الخدمية (1864) التي نفذتها بقيمة 85 مليار دولار.
وتعتبر المعونات الانسانية أحد الدعامات الأساسية للوجود التركي في القارة، حيث ان الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا-TIKA) لها مكاتب للتنسيق في 22 دولة، وتموّل المنظمات التركية غير الحكومية مشاريع بناء المداس والعيادات الصحية وحفر الآبار المائية وتوفر المنح الدراسية في المستويات المختلفة من المراحل التعليمية لأبناء هذه الدول. وتركيا تعرض استعدادها الدائم على فتح خطوط تجارية مباشرة بينها وبين تلك الدول وتزويد معدات عسكرية فعالة متناسبة مع اقتصادها النامي وتدريب قوات قادرة على حماية القرار السيادي لتلك الدول، ومصنفة على أنها من ضمن القوى المتوسطة على المستوى الدولي واللاعبين الدوليين الحاضرين في القارة بقوة وتريد من خلال حضورها هذه تحقيق أكثر من هدف مزدوج يرتكز بالأساس على تأمين نصيبها في سوق إفريقيا الصاعدة لأكثر من جهة، وتتطلع أن تكون دولة أفروا-آسيوية بعد أن كانت سابقا دولة أورو- آسيوية مستفيدة بذلك على موقعها المركزي من بين تلك القارات الثلاثة.
وتملك تركيا 5 قواعد عسكرية في 4 دول من القارة من أصل تسعة دول تملك فيها قواعد عسكرية واقعة خارج حدودها، وأن اثنين من تلك القواعد موجودتين في منطقة القرن الأفريقي، وهي تريد من وراء تلك القواعد حفاظ أمنها من التهديدات الأمنية المتباينة وتحصين دورها الإقليمي. وتركيا تحتل المركز الرابع من بين الدول الأكثر تمثيلا في القارة وذلك بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبينها وبين إفريقيا قمة الشراكة التي تعقد مرة في كل خمس سنوات لها، وزار رئيسها أردوغان 30 دولة في القارة والتي خصص ثلاثة منها للصومال. وتشكل المدارس والخطوط الجوية واجهة تركية في القارة حيث تتجه الخطوط التركية رحلاتها الجوية إلى 62 وجهة تشمل على 40 دولة ولها في إفريقيا 175 مدرسة تعليمية لا تشمل المراكز الثقافية الخاصة لتعليم الثقافة التركية باعتبارها مكونا رئيسيا من المكونات الأساسية في تنمية العلاقات السياسية بين الدول.
ويساعد تركيا تنامي حضورها في القارة أنه ليس لها ماض استعماري مخدوش ولا تعطي للدول في القارة ديونا تثقل كاهلها الاقتصادي وتؤمن بمبدأ السيادة الكاملة على أراضيهم ومنطلقة من قاعدة المنفعة المتبادلة والالتزام المشترك، وأن لديها ما يمكن أن تقدمه إلى القارة بنهج معاكس تماما عن نهج الدول التي استعمرتها سابقا وعندها شركات محسوبة على أنها من أفضل الشركات الـ 100 شركة صناعية دفاعية في العالم. وتركيا تعرف أهمية افريقيا المستقبلية، وأن عشرة دول منها تدخل ضمن لائحة الدول الـ 64 الأكثر نموا في اقتصادها القومي، وأن القارة مليئة بالموارد غير المستغلة بعد أو غير المكتشفة بما يجب (65%) وتشكل سوقا جديدا موسعا بسعة سكانية بالغة بـ 1.3 مليار نسمة فضلا عن أنها تستورد الطاقة من إفريقيا ( نيجيريا، الجزائر ليبيا) وتأخذ منها موارد أولية خامة يساعدها على تطوير سياساتها الصناعية الثقيلة بالدرجة الأولى وتصدريها إنتاجها الحربي وصناعتها التكنولوجية ذائعة الصيت على المستوى الدولي .
المضمون والدلالة
تتعلق الاتفاقية الأولى بالدفاع، ومدتها عشر سنوات قابلة للتمديد في حال الموافقة المتبادلة بين الطرفين. والبنود التي تتكون منها غير منشورة بعد بشكل رسمي ولكن مضمونها العام يوحي على أن تركيا سوف يكون لها قواعد وموانئ بحرية جديدة في المياه الصومالية وأنها ستعمل على تدريب القوات البحرية الصومالية وتزويدها بالمعدات والتقنيات اللازمة وأنها تعمل مع الصومال في إنشاء قوات خفر السواحل في المدة الزمنية المحددّة في الاتفاق. وعن طريق الاتفاقية، ستقام نقاط ومنشآت أمنية ساحلية مشتركة وسيكون هناك تنسيقات منتظمة بين الطرفين في مجال الملاحة والتجارة البحرية ودوريات مشتركة مجهزة لمكافحة جميع أنواع التهديدات في المناطق البحرية ومنع التلوث البحري. وتمّ توقيع الاتفاقية الأولى بناءً على استجابة طلب مقديشو من تركيا، وذلك نتيجة شعورها بالتهديد الخارجي ورغبتها الملحة في حماية مياهها من الإرهاب البحري وإنهاء الصيد غير القانوني المشهود والتصدي لعمليات إلقاء النفايات الذرية السامة في مياهها الإقليمية، بينما الاتفاقية الثانية تمت بناء على رغبة انقرة. والاتفاقية الأولى متصلة مع اتفاق آخر وقعتها تركيا مع جيبوتي في مجال التعاون العسكري والمالي ووقعها وزير الدفاع التركي في جيبوتي في فبراير من هذا العام. وتركيا تريد من خلال هذه الاتفاقيات تنويع مراكز نفودها في المنطقة وتأمين مصادر عصب اقتصادها الذي هو الطاقة وأن تتبوأ مكانة متقدمة من بين الدول المتنافسة معها إلى القارة والاستعداد لسيناريو محتمل بحيث يمكن أن تكون الممرات والمضايق الدولية التي تمرّ بها مصالحها المتنوعة في اضطراب منفلت. والاتفاقية الخاصة بالطاقة تشتمل على إنتاج النفط والغاز الطبيعي في المناطق البحرية والبرية وتنظم عمليات التنقيب والتوزيع والتكرير وطرق المبيعات والخدمات اللوجستية والمشاريع الأخرى المكلمة، وتعطي لتركيا حصة ثابتة من العوائد المالية (30%) وتجعلها مسؤولة عن نقل الطاقة إلى خارج الصومال الذي يقاس حجمها بـ 30 مليار برميل، وسيتم البحث والتنقيب في ثلاثة أحواض بحرية مختارة في شهر سبتمبر المقبل وذلك وفق مذكرة التفاهم الجديدة الموقعة بين الوزيرين مجددا في يوم 18 من يوليو 2024 في تركيا، وتخطط الدولتان بأن يتم استخراج النفط خلال عامين من بداية توقيع الاتفافية.
ويبدو أن الاتفاقيتين مترابطتين من حيث الطبيعة ومكملتين من حيث الأهداف رغم اختلاف موضوعاتهما وتم ّتوقيعها على مستوى الوزراء المعنيين في الجانبين في تركيا ومرّتا على المحطات التي يعطي لها القوة القانونية في بدء تنفيذها الميداني (المجالس التنفيذية والبرلمانية) وتعنيان أساسا بالتعاون الوثيق بين الدولتين في مجالات حماية السيادة البحرية للصومال والاستغلال الأمثل لموارد الصومال الطبيعية المكتنزة في مياهها الإقليمية الواسعة. والاتفاقيتان قريبة من حيث النمط على اتفاقية تجديد الصلاحية البحرية في البحر المتوسط التي وقعتها ليبيا مع أنقرة في 2019 عند شعور حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بتهديد داخلي مدفوع من قبل قوى خارجية، وهو تهديد قرين على التهديد الذي تواجهها الصومال في الفترة الحالية من إثيوبيا وداعميها، وبسببها نجت شرعية الحكم في ليبيا من سقوط مدوي لكانت تسقط معها البلاد إلى هاوية سحيقة. والصومال تطمح من خلال دخولها على هاتين الاتفاقيتين أن تجد شريكا موثوقا يساعدها على التعامل مع التهديد الخارجي المكتنف على مصيرها المستقبلي ويؤمن لها حلا مستداما في قضية الاستباحة المشهودة لمياهها البحرية وسرقة الموارد الطبيعية عندها التي تؤكد الدراسات بأن الصومال تخسرها 500 مليار دولار سنويا.
وبدأ نقاش الاتفاقية الأساسية أواخر 2023م وتمّ توقيعه في فبراير 2024م ومدته الزمنية محددّة بعشر سنوات قابلة للتمديد، ويأتي توقيعها بعد توقيع مذكرة تفاهم بين صومالاند وإثيوبيا المتضمنة على استئجار الأخيرة مساحة 20كم في المياه البحرية للاستخدام بها كقاعدة في قواتها البحرية وسط توتر متصاعد قائم في أمن مياه المنطقة وناتج من الاستهداف الحوثي على السفن التابعة للدول الداعمة لإسرائيل وحرب غزة العابرة في مدخل الجنوبي في البحر الأحمر، ويتماشى مع تزايد الدول الـ(12) التي تتخذ قواعد عسكرية في جمهورية جيبوتي لحماية مصالحها الحيوية في المنطقة وتأمين مرور سفنها في مضيق باب المندب كما أن الاتفاقيتين تأتيان في فترة توجد فيها اتصالات متقدمة بين حركة الشباب الإرهابية وجماعة الحوثي والتي تهدف إلى التعاون في مجال نشاطاتهما المشتركة ومخاوف جديدة متصلة على تعاونهما المحتمل على ضفتي مياه خليج عدن وتأثير ذلك على حركة التجارة الدولية العابرة في مياه المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، تتزامن الاتفاقيتان في وقت يتزايد فيها التنافس المحموم بين القوى الدولية الكبرى والمتوسطة في تعزيز حضورها السياسي في منطقة القرن الإفريقي ويتصاعد فيه منسوب الكراهية في إفريقيا ضد الدول التي كانت تستعمر القارة سابقا لأسباب من بينها ماضيها الأسود وغياب الإحساس بالشراكة وانعدام مفهوم المنفعة المتبادلة في العلاقة الثنائية بينها وبين تلك الدول، والالتزام على دعم الشرعية الوطنية، وبالتالي تبحث تلك الدول عن شراكة متكافئة واحترام في السيادة الوطنية وتقاربا في ميزان التجاري المتبادل بينها وبين شركائها الجدد. وتعكس الاتفاقيتان التقاء أولويات واهتمامات الدولتين في منتصف الطريق، حيث أن تركيا تريد الطاقة ونفوذا سياسيا يكون خارج حدودها السياسية مقابل الصومال التي تريد بناء اقتصادها الوطني وتحصين وحدتها السياسية.
المكاسب السياسية
لا يوجد شك على أن الاتفاقيتين تعطيان للدولتين مكاسب متعددة ومتقاربة للدولتين وتفتح لهم آفاق جديدة تمكّنهما فرصة التوسع في مجالات جانبية أخرى في مرحلة لاحقة. وتعطي الاتفاقيتان الصومال قوة في موقفها السياسي أو التفاوضي في المنطقة باعتبار أن لها شريكا داعما في اهتماماتها الوطنية على المجالات المختلفة وتوفر لها نفسا زمنيا يمكّن لها إعادة ترتيب أولوياتها في الداخل. ووفق تصريح رئيس وزراء الصومال الحالي، تؤدي الاتفاقيتان إلى وقف مخاوف الإرهاب البحري المحتمل، وتؤخر شبح عودة القراصنة، وتوقف انتشار الصيد غير المشروع ، وتنهي احتمالية إلقاء النفايات السامية في مياهها الإقليمية. وتساهم الاتفاقيتان بفعالية على إنعاش الاقتصاد الوطني البطيء الحركة والنمو (3.7%) ويخلقان العديد من الفرص الاستثمارية والمشاريع الأخرى الجانبية وبالذات في مجال البناء والخدمات والمقاولات. ويبدو أن الاتفاقيتين تضمنان للصومال زخما دوليا داعما لقضيتها ومؤيدا لاستقلالها في سلوك المسار التي تبعد عن نفسها شبح التهديد المتربص باستقرارها السياسي ووحدتها السياسية، وفي نفس الوقت تكشف القناع عن دول أخرى مناوئة لوحدتها السياسية، ومعادية لأي تمدّد تركي مستدام يؤدي إلى تغير موازين القوى في المنطقة. وتقيد الاتفاقيتان دور منظمة ايغاد الباهت وتجعل دورها ثانويا في القدرة على حلحلة الأزمة واستعادة الثقة الضائعة بين الدول الأعضاء فيها وذلك بسبب موقفها الأول المخجل من المجازفة غير محسوبة العواقب التي اتخذتها إثيوبيا بداية العام، وهي مجازفة مناقضة لميثاقها التأسيسي الموقع عام 1988م ومضّرة على وحدة المجتمع الصومالي وهي بالأساس منظمة منحرفة عن دورها التأسيسي التنموي واتخذتها إثيوبيا أداة من أدوات تحقيق أجندتها التقسيمية تجاه الصومال ولا يوجد أهمية تذكر في استمرار الصومال بعضويتها بعد انضمامها الجديد إلى مجتمع شرق إفريقيا.
وتشرّع الاتفاقيتان حضورا تركيا في الصومال وتعزز نفوذها السياسي في المنطقة دون الحاجة للانضمام إلى التحالف مع دول الناتو ويضمن لها ورقة سياسية رابحة في علاقاتها مع واشنطن وبالذات في المجال الامني بحيث يكون لديها إمكانية القيام ببعض الأدوار في المنطقة بالتنسيق معها أوبالنيابة عنها عند اشتغالها المحتمل إلى أولويات أخرى بعيدة عن المنطقة. وتؤمن الاتفاقيتان موقفا سياسيا متقدما في موقعها التنافسي مع الآخرين في تلك المنطقة الحيوية وتتيح للقوات البحرية التركية العمل في السواحل الصومالية وتؤهلها بقيام دور سياسي أكبر في المنطقة باعتبار نفوذها العسكري في المنطقة. وتعطي الاتفاقيتان تركيا ورقة سياسية رابحة في قيام بدور الوسيط الموثوق بين إثيوبيا والصومال في الأزمة الحالية بينهما باعتبار أن الجارتين شريكتان رئيسيتان لها في منطقة القرن الإفريقي، حيث أن تركيا مرتبطة مع إثيوبيا بعلاقات متعددة المستويات وهي ثاني أكبر شريك تجاري لها بعد الصين، ويوجد في إثيوبيا حوالي 200 شركة تركية تقوم باستثمار3 مليار دولار، موفرة لأكثر من 50 ألف فرصة عمل حيث وصل التبادل التجاري بينهما إلى 650 مليون دولار عام 2022، وهو أمر مكّن لها التوسط بين الطرفين لاستخدام نفوذها السياسي في احتواء تبعات المجازفة الإثيوبية الأخيرة ضد السيادة الصومالية .
المخاطر
ويبدو أن الاتفاقيتين تحملان في طياتهما العديد من المخاطر التي من المحتمل أن تعيق على تنفيذها أو تؤخر الجداول الزمنية المقرّرة لتنفيذ بنودها الأساسية على الأقل. ويمكن تقسيم تلك المخاطر إلى مخاطر متصلة بمفهوم الاتفاقيتين ذاتهما وكيفية التعاون المستقبلي عبر آلياتهما التنفيذية وقوة التزامهما المشترك على المدى البعيد. وهناك مخاطر أخرى مرتبطة بالجبهة السياسية المناوئة على الاتفاقيتين وخططها المضادة لعرقلة تنفيذهما الميداني على أساس أنهما يمثلان حجر عثرة في إحراز المكاسب الاستراتيجية التي حققتها تلك الجبهة على حساب المصلحة الوطنية في فترات زمنية متوالية. وفيما يتعلق بالمفهوم، فإن الاتفاقيتين وبالذات الأولى الدفاعية منها تفيد على أن الدولتين نجحتا حتى الآن في وضع الأساس القانوني لموضوع الاتفاقيتين، ومن الضروري أن تكون هناك ترتيبات أخرى ضرورية يجب العمل بها من كلا الطرفين في المرحلة التالية، وهي ترتيبات تحدّد الجهات المنفذة والإطار الزمني للتنفيذ وأماكن التمركز والتنقيب والآليات التنفيذية المختلفة للاتفاقيتين وكلها تحتاج إلى جهد إضافي آخر مما يعني أن الدولتين تقفان الآن في خطوة متقدمة من مسيرة يمكن أن تطول أكثر مما هو متوقع، ومن ثمّ هناك الكثير من الأمور المتبقية التي يجب عملها في المرحلة المقبلة قبل القيام بالخطوة التنفيذية التالية.
والنقطة الأخرى هي أن الاتفاقيتين لا تعنيان الضمان بالتزام تركيا في أن تشهر سلاحها أمام أية دولة أو جهات تريد الاعتداء على السيادة البحرية للصومال وتحارب بالنيابة عنها أو أنها ستقاتل ضد أية جهة محلية متمرّدة على سياسات الدولة في حماية حدودها البحرية بقدر ما أن الاتفاقيتين هما تعبير عن التزام تركيا لدعم الخيار السياسي للدولة الوطنية وتقوية دور الجيش في تأمين البلاد وتوفير المعدات والتقنيات اللازمة التي تساعدها على النجاح في مهامها العملياتية مستقبلا مما يعني أن الاتفاقيتين تعطيان للصومال الدولة فرصة زمنية يساعدها على بناء الذات من جديد وتأسيس قواتها البحرية والانتفاع على ثرواتها البحرية وترتيب جبهتها السياسية الداخلية حتى تكون مهيأة بالاستفادة القصوى من اليد التركية الممدودة نحوها وقادرة على التقاط الفرصة السانحة لصالحها سريعا. وليس صحيحا بالمّرة التصديق على أن وجود قوات دولة حليفة على أراضي دولة صديقة تزيل التهديد الأمني المحدق على الاستقرار الداخلي للدولة، وتحقق على الوحدة الوطنية وتحمي الموارد الوطنية للدولة وإلا لنجحت القوات الإفريقية المتمركزة في البلاد قرابة عشرين سنة على إنهاء الإرهاب المحلي وتنهي الانقسام السياسي السائد، وفي الغالب لا يكون دعم أية دولة أجنبية لأخرى صديقة أكثر من دور داعم مساند للإرادة المحلية ويتأثر سلبا وإيجابا قوة وضعف الاستجابة الوطنية بينما يكون دور الدولة الوطنية هو الأساسي في إحداث التغيير المحوري في حماية البلاد.
والمخاطر الأخرى المحدقة بالاتفاقيتين هي أنها رفعت مستوى خوف بعض الدول والمنظمات الناجم من الحضور التركي الشرعي في المياه الصومالية الكبيرة من حيث السعة أو الطويلة من حيث المسافة أوالاستراتيجية من حيث الموقع، وتقطع الطريق أمام آمال إثيوبيا في إمكانية التجاوز السريع لعقدة نقص القوة عندها الناجمة من فقدانها لمنفذ بحري دائم لنفسها بعد يأسها الخائب للوصول عن طريق إريتريا سابقا، ومن ثمّ لهما مدلولات أكبر من مجرد توقيع دولتين على اتفاقيات تريد أن تساند كلا منهما للأخرى في تحقيق مصلحتهما المشتركة وتتوجس أن تكون هذه الخطوة بداية العودة إلى دولة صومالية قوية وحضور تركي مستدام يقودان معا إلى تغيير موازين القوة في المنطقة. وفهم الاتفاقيتين على أنهما مكاسب سياسية للنظامين أو إنجازات شخصية لقياداتهما السياسية بدلا من اعتبارهما مكاسب وطنية تحققت للدولتين في فترة حكمهما يشكل خطر آخر على الاستمرارية في تنفيذ الاتفاقيتين في عمرهما الافتراضي وهو خطر يمكن أن تنكشف مظاهره أكثر مع انتهاء فترات الحكم الدستورية للنظامين في 2028 بالنسبة للرئيس أردوغان و 2026 بالنسبة للرئيس حسن شيخ وينبغي تدارك مصاعبه المحتملة مبكرا .
وفيما يتعلق بالجبهة السياسية المناوئة للاتفاقيتين، فهناك العديد من الدول الأصدقاء مع إثيوبيا الذين يشتركون معها في فكرة الحصول على منفذ بحري في المياه المحيطة بها بأي ثمن وتتفاعل تلك الرغبة مع نزعة انفصالية محلية متطرفة وجهات سياسية غلبتها الأنانية المفرطة في تفكيرها السياسي وغاب عنها الرشد الطبيعي. وترى تلك الجهات المحلية على اختلاف مسمياتها خطورة كبيرة على مصالحها وهي بذلك متخوفة على أن يوصد ذلك الباب أمام تحقيق اجندتها الاقليمية ومصالحها الحيوية غير المنسجم مع مصلحة الدولة الوطنية مطلقا. وتؤمن تلك الجبهة العريضة على أن مصالحها تلك تتحقق فقط في تكريس الانقسام الداخلي ورخاوة مفاصل الدولة ودعم النزعة الانفصالية التي في طريقها إلى الانكماش وليس غيرها، وهو أمر أثبتته تلك الدول بالتجربة العملية وممارستها السياسية المعروفة الأثر في الفترة الماضية .
وتستند مخاوف تلك الجبهة العريضة إلى مجموعة من الفرضيات التالية:
1. أن حضور تركيا الجديد في المنطقة سوف يلغي المكاسب الاستراتيجية المتحصلة لهم في فترة العقود الماضية، وينهي وجودها الأسبق عنها في المنطقة، ولذلك يجب أخذ تدابير احتياطية تحافظ على تلك المكاسب المحققة سابقا بأي ثمن، وتثبت فعالية القرب الجغرافي عن الإرادة السياسية المشتركة بين الدولتين المتحالفتين .
2. أن حضور تركيا المتنامي في منطقة القرن الإفريقي وتنفيذ الاتفاقيتين على أرض الواقع سيكون معناه حضورا تركيا طويل الأمد في المنطقة وعودة دولة صومالية قوية وموحدة وهو أمر يؤدي إلى تغيير موازين القوى في المنطقة لصالح الصومال وهو أمر لا ترغب تلك الدول تحققه في القريب العاجل لأسباب مختلفة .
3. أن هذا الحضور متسق مع اهتمام تركي بالقارة بشكل عام وفي المنطقة بشكل خاص بسبب الأهمية المذكورة أعلاه وقائم على حسابات استراتيجية مستجدة عندها وليس فقط على استجابة طلب صومالي ناجم عن شعورها بالتهديد المفاجئ على أرضها، ومن المحتمل أن ينتقل مزاحمته أو منافسته في مناطق أخرى في القارة، وبالتالي يجب العمل على إيجاد طرق ما لاحتوائه مبكرا والمسارعة إلى إفشاله السريع قبل فوات الأوان .
أن حضور تركيا الدائم في المنطقة عن طريق الصومال مع انضمام الصومال الجديد إلى مجتمع شرق افريقيا يعكس ابتعاد الصومال التدريجي عن إطار نظرية الأمن القومي العربي الجماعي إلى حد ما، ويمثل ذلك ثغرة جديدة مضافة إلى الثغرات الأخرى السابقة، كون أن منطقة القرن الإفريقي تشكل الحديقة الخلفية لمنطقة الخليج .
ولهذا فإن هناك مخاطر حقيقية محاطة بالاتفاقيتين، ومن الممكن أن تقوم تلك الجهة على افتعال أزمات سياسية في جبهات مختلفة في البلاد. وقد تتخذ تلك الأزمات على صورة السعي إلى إسقاط الحكومة الحالية وضرب الانسجام المستقر القائم بين الرئاسة والمجالس التشريعية والتنفيذية في الدولة وإثارة الصراعات بين القوى السياسية والفصائل القبلية فيما بينها وإذكاء الانشقاق بين السلطات الفيدرالية والولايات الأعضاء فيها حتى تكون الدولة مضطرة في الاختيار بين التعاطي مع إدارة تلك الأزمات المختلقة أوالاستمرار في العمل على تنفيذ الاتفاقيتين والتزام بنوده الأساسية، وقد تكون قضية إدخال الأسلحة التي شهدناها منذ أيام في مدينة عابدواق وسط الصومال من جهة إثيوبيا مؤشرا على ما هو قادم .
خاتمة
تشكل الاتفاقيتان الموقعتان نقلة نوعية في العلاقة السياسية بين الصومال وتركيا في المرحلة المقبلة، وتفتح عهدا جديدا في ديناميات العلاقة بين الصومال ومحيطها الإقليمي وتدشن كذلك حضورا تركيا أكثف وأوسع في المنطقة. ويمكن القول أن الاتفاقيتين المكملتين بعضهما البعض هما أهم اتفاقيتين تمكنت الدولتان إنجازهما منذ بداية العلاقة السياسية بينهما عام 1979م وهو إنجاز سياسي كبير تحقق للدولتين في فترة زمنية قياسية. وتأتي الاتفاقيتان وفق استراتيجية تعزيز العلاقة الاقتصادية مع إفريقيا واهتمام تركيا المتنامي في القارة الصاعدة الذي ابتدأته تركيا منذ عام 2005. وبالتأكيد، تختلف هاتان الاتفاقيتان عن الاتفاقيات الأخرى الموقعة بين الدولتين سابقا، أنهما تعطيان للدولتين مكاسب سياسية عاجلة وعوائد اقتصادية متقاربة في الآماد القريبة والبعيدة وتترك لهما المجال مفتوحا في التوسع في مجالات أخرى جانبية في مرحلة لاحقة. والتفاعلات السابقة الايجابية بين الدولتين التي حدثت في فترة ما بعد زيارة رئيس أردوغان عام 2011 ووجود السمات العديدة المشتركة بين الدولتين المذكورة أعلاه يبقى عاملان أساسيان في سعة المساحة المشتركة بين الدولتين والوصول إلى موقف ترى الصومال لتركيا حليفها الموثوق وتركيا للصومال شريكها المعتمد في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تزامنا في التوقيت بين تهديد تشعر به الصومال من جراء توقيع إثيوبيا مع صومال لاند مذكرة تفاهم في الأول من يناير هذا العام، وأولوية تعطيها في بناء دعائم اقتصادها المتباطئ الحركة والانتفاع الأسرع في ثرواتها البحرية المستباحة ورغبة تركية جامحة في تنويع مصادر الطاقة عندها وتحقيق تقدم حقيقي في مسعى حضوره القوي في القارة وأن تكون الصومال نموذجها العملي، وبوابة رئيسية للوصول إليها. وينبغي الإشارة على أن الخطوة التي قامت بها إثيوبيا تمثل مجازفة مضّرة بالوضع القائم غير المستقر في المنطقة أصلا وخلقت أزمة ثقة غائرة العمق في تعاطي دول المنطقة مع خطط التعاون الإقليمي المنشودة عبر مظلتهم الاقليمية المشتركة بينهم التي هي إيغاد وتأخذ أهمية الحفاظ البيني على سيادة الدول ومسارات التعاون الأمني المدفوعة إلى المجهول، ومن ثمّ دفعت كل دولة إلى مراجعات أولوياتها الوطنية بناء على المعطيات المتوفرة في الميدان.
ورغم المكاسب المختلفة التي ستحققها الاتفاقيتان للدولتين في المجالات المختلفة إلا أنه يحيط بها صعوبات أو مخاطر محاطة على تنفيذها. وبعض هذه الصعوبات متصل في الفهم على مضمون الاتفاقيتين، حيث أن البعض يفهم على أن توقيع الاتفاقيتين هو النهاية في الموضوع، وأن تركيا سوف تكون مستعدة لاتخاذ خطوات عسكرية رادعة ضد التهور الإثيوبي الوارد بالوصول إلى المياه بالقوة بينما الاتفاقيتان خصوصا الدفاعية منها تحتاج إلى ترتيبات إضافية وبروتوكولات أخرى وتشكيل لجان نوعية وفرق فنية متنوعة تعمل مع الوزارات المعنية على تحقيق الالتزامات المشتركة بين الدولتين قبل الدخول إلى المرحلة التنفيذية. وهناك دول عديدة ومنظمات وشركات دولية تعتبر الحضور التركي الفعال في المنطقة تهديدا مباشرا لمصالحهم المباشرة ومتوجسة من رغبة تركيا في الاستفراد بالموارد البحرية الصومالية وممانعة من عودة الصومال الموحدة في المعادلة السياسية للإقليم. وتركيا تريد من الصومال أن تكيّف لنفسها لشراكة فاعلة طموحة تتمّ في مرحلة زمنية فاصلة في تاريخ علاقاتهما السياسية المستقبلية، ويتطلب ذلك منها اتخاذ خطوات عملية سريعة تؤدي إلى كسر شوكة الإرهاب وردم الهوة السياسية بين القوى السياسية الوطنية والتوحد نحو المواجهة الجماعية لطبيعة التهديدات المكتنفة لمستقبله الجماعي. وتركيا لا تريد أن تخسر إثيوبيا باعتبار ما بينهما من شراكة واستثمارات متعددة المستويات تبلغ في حدود 3 مليارات وفي نفس الوقت تكون ملتزمة بمضمون الاتفاقيات الموقعة بينها وبين الصومال ومن ثمّ هي تضع ثقلها الدبلوماسي في النجاح في خيار الوساطة التي بدأتها غرة هذا الشهر بين الصومال وإثيوبيا على مستوى وزراء خارجيتهما وعودتهما المقررة إلى تركيا في سبتمبر المقبل للغرض ذاته، وكأنها بهذا المعنى وقعت تركيا في اختيار صعب بين حب متبادل بينها وبين الصومال مشفوع بركائز متينة وبين تعاون ثنائي قائم على المصالح الاقتصادية المجردة التي يربطها بإثيوبيا وهو اختبار صعب سنعرف به على مر الشهور المقبلة كيف ستجتازه تركيا.
المصدر : افروبوليسي