أخبار
الصراع بين الصومال وأثيوبيا .. طبيعته ومسبباته ومآلاته
الصراع بين الصومال وأثيوبيا
السمة السائدة في العلاقة الثنائية بين الصومال وأثيوبيا على مر العصور هو الصراع والتدافع وليس التعاون والسلام السائدين بين غالبية الدول في العالم سواء كان ذلك في عهود الدولة المعاصرة أو ما قبلها من العصور. وتعكس هذه السمة صورة من طبيعة العلاقة السائدة بين إثيوبيا والعالم الإسلامي المحيط بها الذي اتسم بالتوتر والفتور على معظم مراحله التاريخية.
والصراع من حيث الطبيعة والجوهر مختلف تماما عن النزاع، وذلك من حيث الشمولية والاتساع والمدة الزمنية التي يمكن أن يستمر فيها. وغالبا ما توصف الحرب بأنها وجه من وجوه الصراع القائم بين الدول، بينما النزاع ينحصر في خلافات معينة، حول حقوق متعلقة بمسائل الحدود أو بالموارد، ويدور بالأساس حول قضايا واحدة يعتقد أحد الطرفين أنه الأحق من الآخر في ملكيتها، ويتم حلها في الغالب بالوسائل السلمية. والصراع له مقاييس وأعراض يمكن من خلالها معرفة درجته ونوعه، وله أدوات ووسائل ليس بالضرورة أن تكون بالضرورة قتالية.
وأساس الصراع هو تعارض المصالح ووجود اختلافات جوهرية نابعة من تضارب الأهداف بين دولتين، وتمايز المعتقدات الدينية بين شعوبها، وتناقض الأيديولوجيا السياسية فيما بينهم. ويتميز الصراع من غيره بأن أمده طويل، ومشكلاته تراكمية وتاريخية، ومن الصعب حله بسهولة، ومن ثم تلجأ الدول التي بينهما صراع ما طرق معينة لإدارته (تخفيف التوتر، منع التصعيد…الخ) بدلا من العمل غير المعقول بحثا عن إنهائه.
ونتيجة لذلك، فإن ما يمكن أن يحصل بين الصومال وكينيا هو النزاع، مثل النزاع البحري الذي كان بينهما مؤخرا، ولا يوجد بينهما تاريخ صراع مذكور، وما يمكن أن يحدث بين الصومال وجيبوتي هو اعتداء من الصعب أن يتطور إلى نزاع يمكن أن يطول نتيجة خصوصية العلاقة بينهما وبين الصومال الدولة. والعلاقة بين الصراع والحرب هي علاقة متداخلة مثلهما مثل العلاقة بين الحرارة والشمس، حيث إن ارتفاع أحدهما يعكس وجود الآخر، وكلما ارتفعت درجة الصراع بين الدول، كلما يكون احتمال حدوث الحرب بينهما واردا. والعداء والكراهية هما الصفتان الثابتتان بين أي طرفين يوجد بينهما الصراع، خصوصا إذا كان معقدا، ومن ثم يريد أحدهما إقصاء الآخر والسعي إلى إزالة القدرة التنافسية معه.
وقد يكون الصراع بين الدول علنيا سافرا ويمكن أن يكون كامنا ومستترا، وقد يمكن أيضا أن يكون ثنائيا ومتعددا يمرّ بين أكثر من الدول، ومظاهره قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وقد يمكن أن يكون شاملا بين ذلك كله، وأن قضايا مثل التهديد، الضغط، الحصار، العقاب، التدخل، الاستفزاز هي أدوات من أدواته، بينما العنف، القتل، التهجير والدعاية تكون أدوات أخرى من أدوات الحرب. والصراع السائد بين الصومال وأثيوبيا هو من النوع المستعصي الذي من الممكن إدارته وتأجيله، ولكنه من الصعب إنهاؤه ومعالجته لأنه هو صراع التوازن والبقاء، ويتمحور حول من له الأصل في الانتماء إلى المنطقة، ومن يحق له البقاء في الإقليم، وعلى أي طريقة ؟ وكلما سادت أجواء من التفاؤل والسلام المرحلي يعود شبحه مرة أخرى في الأفق.
والمدهش أنه من الممكن أن تطول فترات السكون العابرة بسبب سيادة أوضاع انتقالية معينة في الدولة أو تربع شخصيات في سدة الحكم تفضل الخيار السلمي على العسكري في إدارة الصراع مع الجار. وقد يكون الصراع القائم بين الصومال وأثيوبيا هو أقرب إلى الصراع القائم بين تركيا واليونان، وبين اسرائيل والعرب، وبين الهند وباكستان مع الفارق في القياس والمقارنة في بعض الجوانب، والأقرب من بين هؤلاء تقاربا وتشابها هو الأول الذي هو بين تركيا واليونان. والغريب أن القاسم المشترك بين تلك الصراعات القريبة للصراع بين الصومال وأثيوبيا، هو ثبات حدود متنازعة غير متفقة على معالمهما ووجود امتداد عرقي مشترك بين تلك الدول ، وتمايز عقائدي مختلف، وعداء تاريخي متراكم وظهور بصمة بريطانية استئثاريه وانحيازية ضد طرف لحساب آخر.
أسباب الصراع
1. اعتبار كل منهما على أنه الوكيل الإقليمي لقوى خارجية
أن كلا من الصومال وأثيوبيا يعتبر نفسه الوريث الشرعي للقوى المسيحية السائدة في أوربا والشرق الأوسط بالنسبة لأثيوبيا والإسلامية بالنسبة للصومال في منطقة مهمة في الحسابات الجيوسياسية، وهي منطقة القرن الأفريقي. وأثيوبيا أقدم مملكة مسيحية في إفريقيا السوداء، وكانت الوحيدة في القارة بأكملها في فترة طويلة، وباعتبار أنها كانت مسموعة بوجودها في إفريقيا الشرقية من قبل القوى الأوروبية وغير معروفة الموقع قبل الاستكشافات الجغرافية الحديثة، فإن الأوروبيين كانوا مهتمين بالوصول إليها ومتجاوبين مع مطالبها ومتحمسين إلى انقاذها من الخطر المحدق بها والذي كانت تستدر بسببه عطف شركائها الدوليين.
ارتبطت إثيوبيا بعلاقات جيدة مع عواصم الدولة البيزنطية في الغرب والشرق والكنائس التابعة لها في الاسكندرية والقدس والقسطنطينية قبل تحولها إلى مدن إسلامية ومن حين لآخر، كانت تقدم نفسها على أنها الركيزة المسيحية في أفريقيا وحاملة لوائها في المنطقة، وعندها وفرة هائلة من المنتجات التجارية التي كانت مختلف تلك الدول والإمبراطوريات الغربية في حاجة ماسة إليها على مستوى الاستخدام الفردي والاستهلاك المجتمعي (البخور، العطور، الذهب…) أو الانتاج الزراعي (القوى العاملة) والصناعي (الجلود، الصمغ، قصب السكر، الحديد…)، ومحاطة بقوى إسلامية مانعة في التواصل الآمن بينها وبين عالمها الخارجي.
ولاحقا، عندما أصبح الإسلام هو دين الأغلبية في المنطقة، أضحي المسلمون سدا وحائلا يحول بينها وبين الاتصال والتواصل المنتظم مع القوى المسيحية سواء كان في منطقة الشرق الأوسط (القدس والقسطنطينية) أو ما بعدها من العالم الأوروبي المركزي في الحضارة المسيحية.
وكما أن أثيوبيا كانت حاملة لواء المسيحية في منطقة القرن الأفريقي، أصبح الصوماليون أيضا حملة لواء الإسلام في المنطقة ومصدر قوته الجهادية وعنصرا راسخا للإسلام في المعادلة الإقليمية، وتكونت عندهم ممالك متوارثة تمتدّ حدودها الجغرافية من المحيط الهندي وصولا إلى مدينة سواكن في السودان ومعروفة بدول الطراز الإسلامي وذلك بعد حدوث الانصهار بينهم وبين القبائل العربية والقوميات الأخرى وذوبان الفوارق البينية بينهم وبين القوميات الأخرى المسلمة واندماج المصالح التجارية مع أهداف مقاصد الرسالة الإسلامية. وبالطبع، أصبح الصوماليون القوة العسكرية والتجارية الرئيسية المؤثرة، ودخلت المصالح الحيوية الأثيوبية تحت حوزتهم.
وبالطبع، الصوماليون كانوا في حالة تواصل دائم وعلاقة وثيقة مع العواصم الإسلامية المتنقلة بين المدن في الحجاز، والشام والعراق، وأستانا واحتكاك مباشر مع القوى الإقليمية سواء في اليمن والقاهرة أو منطقة الخليج، واحتفظوا بقرون طويلة بأن يكونوا العمق الجيوسياسي في الحدود الجنوبية للعالم الإسلامي والحائط الخلفي الحصين للمقدسات الإسلامية في الحجاز، ومياه البحر الأحمر.
ومع تطور الزمن، أصبح الإسلام والصوملة وجهين لعملة واحدة، ودفعوا ثمنا باهظا في أداء تلك المهمة المقدسة، وقام الصوماليون بدور مركب يتأرجح بين منع اختراق القوى البحرية من الحدود الجنوبية للعالم الإسلامي (البرتغال) ووصولها إلى الأراضي المقدسة، وفك عرى الارتباط الفعال بين تلك القوى ومملكة أثيوبيا، ومساندة القوميات الإسلامية غير الصومالية مثل الأورومو والدناكل( العفار) الإسلاميتين من الهجمات التي كانت تأتي من القبائل الوثنية والقوى المسيحية المتعصبة والمتمثلة بأثيوبيا باستمرار.
ونتيجة لذلك فإن أثيوبيا اضطرت نقل عاصمتها من الشمال القريب إلى ساحل أرتريا (أكسوم) إلى الجنوب (غندر) الموغلة في المرتفعات الداخلية المحصنة بالجبال. والدولتان باتتا تنتميان إلى حليفين متحاربين أو معسكرين متوازيين متنافسين، قامت العلاقة بينهما بعدم التعاون الصحي وفقدان الثقة المتبادلة على مر التاريخ، وبالتالي فإن التنافر اصبح هو النمط السائد في العلاقات السياسية بينهما، وسعى كل واحد من اللواءين على مراحل صراعهما بتحصين مواقعه الدفاعية وتقوية موقفه السياسي وتأمين عمقه الاستراتيجي المتغاير في مواجهة تحدياته الوجودية.
2. اعتقاد كل منهما على أن الآخر هو تهديد وجودي له
ورّثَ ذلك الوضع المتراكم شعورا عدائيا إثيوبياً ضد الصومال والصوماليين دون غيرهم من القوميات في المنطقة، وتحول هذا الشعور مع مرور الوقت إلى هاجس وخوف دائمين بأنها مطوقة بسياج إسلامي تمثل الصومال جبهته الرائدة وشوكته القوية، وشعور الصومال بأن أثيوبيا تريد التمدّد إلى خارج مرتفعاتها الداخلية على حساب تماسك الرقعة الجغرافية للأمة الكوشية المسلمة في المنطقة وترابط الأراضي الصومالية المتصلة عن بعضها البعض.
ويبدو أن فترة حكم الأسرة السلالة السليمانية (1270-1974م) كانت فاصلة بين مرحلة حسن الجوار والصراع المفتوح بين الصومال وأثيوبيا نتيجة تبنيها موقفا عدائيا سافرا ضد المسلمين والإسلام، وهو موقف مناقض تماما لموقف سلالة زاغوي المتسالمة مع الإسلام والمسلمين ومرتبط مع موقف الدولة البيزنطية التي كانوا على علاقة جيدة معها، وبمساعدتها تمكن يكونو أملاك (1270-1285م) أن يكون ملكا على عرش أثيوبيا، وطويت في عهده مقولة الحديث الشريف القائل بـ ” أتركوا الحبشة ما تركوكم” إلى ربما إلى أجل غير مسمى.!
ومع ضعف قوة الدولة العثمانية وتراجع نفوذ الممالك الإسلامية وظهور سلطنات قبلية ينعدم فيها الرابط السياسي الموحد بدلا منهم، وصل الاستعمار الأوروبي الفرنسي والبريطاني تحديدا إلى المنطقة، وتعاملا مع أثيوبيا من منظور دولة مسيحية عانت من الطوق الإسلامي ومتضررة من تهديده الدائم وقوة إقليمية يمكن أن تساعدهما في تحقيق طموحاتهما المتوازية في المنطقة، وتعاونا على تأهيل أثيوبيا في جانب التسليح والبني التحتية عندها فضلا عن تحديث نظام الحكم وتحسين الخدمات الاجتماعية وتوسيع نطاق حدودها الجغرافي في الشرق والغرب حتى أصبح الجزء الشرقي أكبر من سواه على الرغم من وجود التنافس والتسابق بينهما في المنطقة والقارة بشكل عام.
ويبدو أن افتتاح قناة السويس عام 1869 وظهور الثورة المهدية عام 1881م في السودان وكذلك بداية ثورة السيد محمد عبد الله حسن عام 1897م المترابطتين في الصومال؛ كانت عوامل إضافية في تزايد التنافس بين القوى الاستعمارية الأوروبية والأهمية الاستراتيجية في منطقة القرن الأفريقي ومجالات التعاون والتساند الثنائي بين بريطانيا وأثيوبيا من جهة وبين فرنسا وأثيوبيا من جهة أخرى وذلك من أجل التعاضد في مواجهة المسار الثوري ذات المرجعية الإسلامية ضدهما سواء في الصومال أوفي السودان، ناهيك عن مؤسسات وشخصيات أوروبية أخرى مستقلة ساعدت أثيوبيا في تحصين موقفها السياسي وتلميع صورتها الدولية مثل “بتدريديس” اليوناني الجنسية الذي كان مستشارا للحكومة الأثيوبية لشؤون المياه بدوافع عقائدية، وآخرين في مجالات مختلفة مرتبطة بتطوير بنية الدولة.
ويوجد بين الصومال وأثيوبيا حالة من التعاكس اللافت في أغلب المسارات بدءً من الدين (الإسلام- المسيحية)، والمذهب الديني (سني–أرثوذكس) الطبيعة الجغرافية (سهول وصحراء–مرتفعات وهضاب) المهن الغالبة (رعي وتجارة– زراعة وصناعة)، والتركيبة السكانية (التجانس العرقي– التعددية العرقية) اللغة (لغة قومية واحدة– لغات قومية متنوعة) والمناخ (مدار واستوائي– بارد وممطر) وصولا إلى تبني الصومال بنظام سياسي تعددي في الممارسة السياسية مقابل تبنيها مفاهيم النظام الشمولي والاستثمار بالاستثنائية في التاريخ المتلبس بالفكر اللاهوتي الديني المؤمن بالتفوق على الآخر والمختلط مع الممارسة الإمبراطورية بامتياز، وهو ما رسخ بين الدولتين بتصورات متوازية أدت مع تراكمها الزمني إلى ضيق مساحة التفاهم واستدامة التواصل الإيجابي بينهما على مر العصور.
وأكثر النقاط تقاطعا بينهما هو أن كليهما يعتبر الآخر صناعة خارجية، حيث يعتبر الصوماليون بأن أثيوبيا كانت مملكة مسيحية قديمة ودولة داخلية ينحصر وجودها في مناطق قوميتي تقراي في الشمال وأمهرا في الغرب، وأصبحت دولة توسعية ذات حدود مطاطية بفضل التعاطف الغربي القديم والدعم الاستعماري الجديد المتعدد الأوجه مثلما الأثيوبيون يعتبرون الصوماليين بأنهم أصبحوا قوة ديناميكية بفضل انتشار الإسلام في المنطقة، وأنهم رحل، قليلو العدد، وليس لهم تاريخ حكم دولة جامعة فيما بينهم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الصوماليين مقتنعون بأن ما كان تقوم به أثيوبيا في العقود الأخيرة في الصومال كان عملا تخريبا وتفكيكيا، بينما الأثيوبيون يعتبرون بأن ما كانوا يقومون به هو دعم للصومال وتضحية لسلام جيرانها الدائم.
التوسع الأثيوبي على حساب الأراضي الصومالية
اجتمعت طموحات أثيوبيا التوسعية مع الرغبة الاستعمارية لتلك الدول في المنطقة، وبذلت بريطانيا جهودا هائلة في بناء الإمبراطورية الأثيوبية المعاصرة، وعودة دولة أثيوبية قوية مستقلة بعد الحرب العالمية الأولى حتى جعلتها من ضمن دول ال 27 الأكبر في العالم. ونقطة الالتقاء بين الطموحات التوسعية لأثيوبيا والرغبة الاستعمارية البريطانية هو ملء الفراغ الناتج من نهاية حكم الدولة العثمانية وانسحاب مصر إلى منطقة سواحل البحر الأحمر وهرر وإلى ميناء بربرة وزيلع التي كانت تعتمدها أثيوبيا في تصريف عملياتها الاستيرادية والتصديرية.
وبريطانيا كانت تعطي وجودها في قاعدة عدن التموينية، ومنطقة أعالي النيل التي تدخل أثيوبيا من ضمنها اهتماما أعلى من شمال الصومال بشكل عام. وبالنسبة لقاعدتها في عدن اليمنية، فإنها كانت تعتبر بأنها مفتاح البحر الأحمر ومحطة التموين الضرورية للمواصلات البحرية التجارية الكثيرة الذاهبة من وإلى آسيا وأستراليا، وبالنسبة لأعالي النيل، فإنها كانت تحلم بخلق إمبراطورية ممتدة من سواحل البحر المتوسط شمالا ومدينة الكاب جنوبا، وكانت تخشى في تحقيق حلمها من عرقلة فرنسا المعلن وقوة الثورة المهدية الناشئة المعادية لها، كما أنها كانت تخشى من وجودها في سواحل شمال الصومال من ثورة الدراويش المعادية لوجودها أيضا.
وشمال الصومال بالنسبة لبريطانيا، كان مجرد منطقة نفوذ وليست منطقة حكم واستعمار، ولم يكن هدفها أكثر من مجرد ملء ذلك الفراغ الناتج من الانسحاب المصري من المنطقة والسبق من عدم ملء قوة أخرى من بينها أثيوبيا لهذا الفراغ كله.
وعلاوة على ذلك، كانت بريطانيا تريد إيجاد موطئ قدم في الشاطئ الأفريقي في مياه خليج عدن المواجه لقاعدتها في عدن، وذلك من أجل ضمان المؤن الغذائية المستخدمة في تلك القاعدة، وتحمي مرور مصالحها التجارية في مضيق باب المندب، ومن ثم فإنها اعتبرته محمية استخدمته على شكل ورقة مساومة تتقايض بها مع أثيوبيا في سبيل منع الوصول الفرنسي إلى تلك المنطقة، وأمل المساعدة في حربها المعلن ضد الثورة المهدية وثورة الدراويش، بينما جعلت جميع مناطق حوض النيل ودوله مستعمرات تابعة للوزارة المخصصة للمستعمرات واستعمرتهم بطريقة مختلفة تماما عن محميتها في شمال الصومال.
وبدعم من بريطانيا، فإن أثيوبيا مددّت حدودها إلى أريتريا وضمتها وأصبحت لأول مرة دولة بحربة وذلك بعد انسحاب مصر منها عام 2618 من مصوع وسواكن، ووقعت بريطانيا مع أثيوبيا معاهدة الأنجلو- الأثيوبية عام 1897م في عهد منليك الثاني التي عن طريقها تم تأسيس أثيوبيا الحالية، وبموجب تلك المعاهدة، تحالفت مع بريطانيا وإيطاليا للقضاء على حركة الدراويش، وسلمت بريطانيا إقليم الصومال الغربي لأثيوبيا عام 1954م وألحقت كذلك المنطقة المعروفة بـ هود والأراضي المحجوزة في العام نفسه حتى أصبحت خريطتها السياسية تقترب من الشكل الدائري المندمج. وتشكل مساحة إقليم الصومال الغربي المعروف بالمنطقة الشرقية في أثيوبيا حوالي (627000كم2) مما يعني 41.72 % من مساحة جمهورية الصومال (638000كم2)، ويعيش فيه أكثر من6 ملايين صومالي.
وكما أن الصومال أصبحت هي الدولة الأكثر تضررا من الاستعمار البريطاني في المنطقة بأكملها على أراضيها نتيجة تعامل أراضها مثل تعامل الجزار على اللحم من التقطيع والرمي إلى الغير بطريقة لا تخلو من العبث، أصبحت أثيوبيا من جانبها المستفيد الأكبر من وجوده في المنطقة، وبريطانيا أصبحت أول دولة أوروبية فتحت سفارة لها في أديس أبابا. وقديما كان الأباطرة الأثيوبيون يعتبر الصوماليون وحدة اثنية تنتمي إلى الإمبراطورية الأثيوبية، ومن ثم، فهي عارضت بتبجح على الوحدة الطوعية بين الشمال والجنوب في عام 1960، ورفضت نيل الصومال الإيطالي استقلاله عام 1946، اعتقادا على أنه امتداد لإقليم الصومال الغربي، ومدعية على أن حدود أثيوبيا الطبيعية تمتد إلى المحيط الهندي.
ومفهوم أثيوبيا في الحدود هو مفهوم التمني والتطلع القائم على الامتداد الجغرافي (سكان قرن أفريقيا) وليس المفهوم القائم على الحقائق الموضحة في العلوم المعنية بمسائل الحدود، وساهمت بفعالية مشهودة في إسقاط الدولة المركزية وأعاقت جهود بناء الدولة التوافقية، وعملت بمنهجية على تأخير عودة الدولة الوطنية الموحدة، ودعمت بشدة أجندة الانفصال الشمال من الجنوب وأذكت الحروب القبلية والفئوية، وأخيرا عملت على تصدير النموذج الفيدرالي الذي تترنح به الصومال من استيعابه في العقدين الأخيرين.
أثيوبيا وسياسية خلط الأوراق
الحاضر في الصراع المتجدد الحالي بين الدولتين هو تجدد المطامع الأثيوبية في الصومال وشماله وبالذات في المنطقة الشمالية والمواني التي أعاق منها الوجود البريطاني قديما وحفزها الانسحاب المصري منها، وتريد الآن استكمال الخطط التوسعية التي توقفت عند احتلال منيليك في مدينة هرر عام 1887م وتطلعه إلى ذلك ربط المواني الساحلية الصومالية بالمناطق الداخلية المستقيمة بها وليس إلا.
ومذكرة التفاهم الأخيرة الموقعة بين أثيوبيا وصومالاند هو تجسيد عملي على هذا التفكير الطائش. ويرتكز الطمع الأثيوبي على مجموعة من التصورات التي يختلط فيها الوهم بالحقائق النسبة ، حيث تؤمن بأن بقاءها دولة حبيسة كان أمرا مفروضا ولم يكن طبيعيا ومتبنية بمبدإ التنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي سبيلا للوصول إلى مآربها السياسية بدلا من القوة العسكرية، ويوجد عندها ضغطا سكانيا يكاد ينفجر على وجه.
وتعتقد أن الصومال ليست في وضع سياسي يجعلها قادرة على منع تنفيذ أجندتها الإقليمية وهي معتمدة على قواتها في استقرار الأمن ومحاربة المجموعات الإرهابية، وهي لا تمانع من حيث المبدء في التفاوض مع الدولة الصومالية ولكنها لاتقبل رفضها ولاتريد أن تنتظرممانعتها طويلا. وتتذرع بأنه يوجد دولا متواجدة في الأراضي الصومالية من دون موافقة السلطة الفيدرالية على حضورها الميداني، ويوجد أخرى غيرها حصلت أرضا أكبر من 20كم بمجرد مذكرة تفاهم مماثلة وقعتها مع الصومال رغم رفض البرلمان الصومالي بالأمرين.
وتوحي أثيوبيا بأن لديها الكثير ما يمكن أن تتبادل مع الصومال في تحقيق طمعها المتلبس بثوب المنفعة المتبادلة، وهي استطاعت استيلاء منطقة الشفقة في السودان بالاتباع على سياسية النفس الطويل، وتمكنت بالوصول إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من ملء خزان سد النهضة بسياسية صمّ الآذان عن الكل، وهو أمرمحفز ومشجع أكثر مما هو مثبط لها بالنسبة لها .
وتنسى أثيوبيا على أن الصوماليون في أثيوبيا هم القومية الثالثة في البلاد بعد أورما وأمهرا من حيث العدد، ويقطن الصوماليون كقومية 64% من مساحة دول القرن الأفريقي، والصومال الدولة هي الأسرع نموا في السكان (2.98) على مستوى الإقليم. وقوة الصومال تكمن في قوة شعبها الشبابي الثائر والثوري، القادر على التجاوز السريع فيما بينه عند شعوره بالتهديد من وجوده وموارده المتوارثة بقدر أكبر من قوة دولته، ولها امتداد إقليمي يعطي لها عمقا استرتيجيا غير متوفرة في غيرها من الدول في المنطقة.
واليوم، الصوماليون كشعب لهم حضورا في العديد من المنابر الرسمية وغير الرسمية وأصوات مسموعة في كثير من المحافل الدولية والإقليمية المعتبرة، وعندهم يقظة وانتباه أوسع من المرحلة السابقة. واستغلت أثيوبيا بكثرة غياب هذ اليقظة الواعية في الأيام الخوالي التي كانت تسوق نفسها على أنها الوحيدة في المنطقة واستفادت بمحدودية وجوده في فترة الاستقلال وما بعدها من الحروب الدائرة بينها وبين الصومال في القرن الماضي.
والصوماليون معروفون على مستوى العالم قدرتهم على الصمود وتقبلهم على التحدي وارتباطهم بالأرض. والمفقود في تماسك حلقة الرؤية الأثيوبية، أن طمعها يفتقد إلى المنطق والصواب، ولا يوجد قوة دولية مؤيدة على طمعها المخجل، لأن ذلك يفتح بابا لايمكن غلقه في المنطقة بدءا من أثيوبيا نفسها التي يعرف الجميع على أوضاعها السياسية الهشة.
والتجارب الانفصالية في المنطقة لم تؤت ثمارها المرجوة منها وقد تجد أثيوبيا دول محايدة وربما متعاطفة معها ولكن الدول الكبيرة تعرف أن ما يمكن أن تؤدي الخطوة من نتائج سلبية أعلى بكثير من المصالح التي يمكن أن ينجم عنها على المستوى الإقليمي والدولي، ويعلمون بأن الصومال مظلومة حقا في مبدأ التوارث في الحدود التي تبنتها أثيوبيا في الحفاظ على مكتسباتها الحدودية وزيادة ذلك على آخر ينهي الاستقرار النسبي القائم ويضع مصير المنطقة كلها في المجهول، وإذلم تخلت أثيوبيا عن طمعها الواهي فإن الصومال ستطلب من أثيوبيا استرجاع إقليم الصومال الغربي دون رجعة على أساس أنها لم تكن طرفا في الاتفاق الذي منحته بريطانيا الأمس القريب كماهي متحاججة بذلك في ملف مياه النيل، وحتما سيكون دعم بعض الدول في تحقيق أثيوبيا مطامعها معناه ضرب ميثاق تأسيس إيغاد والاتحاد الأفريقي بالحائط.
خاتمة
التفكير الأثيوبي في قضية مذكرة التفاهم الأخيرة فيه الكثير من الاعوجاج الذي يجعل من الصعب التعامل معه على أنه قابل للتصوروالتحقيق، وكل ما تريد تبريره في الأمرعلى أنه يوجد عندها مياه نهرية تريد أن تبادله بمياه البحر على أساس أنها ثاني أغنى دولة في العالم في الثروة المائية وعندها سبعة أنهارعابرة للحدود تنتهي بـ 12 دولة أفريقية في القارة من أصل 12 نهرا تملكها.
وأثيوبيا، تعتبر مياهها دهبا أزرق يجب أن تتقايض مع دول في المنطقة بينها الصومال بما عندهم، وهو ما تقصد به بمبدء المنفعة المتبادلة المكرر من حين لآخر في خطاباتها السياسية وبياناتها الإعلامية الرسمية.
وأثيوبيا ترفض اللجوء في الاتفاقيات التي تم توقيعها في عهد الاستعمار فيما يتعلق بملف النيل وأزمة الحدود بينها وبين السودان ومتمسكة في مبدأ الثورات في الحدود التي رسمها الاستعمار مؤخرا، والذي بموجبه أخذت أرضا صومالية على صورة هدايا منحها الاستعمارولا يوجد عندها أية سوابق حكم معينة، وهي بطبعها لا تعير اهمتما ما على مبدأ السيادة الدولية للدول ومضمون الاتفاقيات الدولية والإقليمية المنظمة على الحدود ومياه الأنهار العابرة للدول ومبادئ العلاقات الدولية واستفادت كثيرا من الاحتماء بالقوى الغربية ومشهورة بالاختباء وراء الاتحاد الأفريقي والتستر بثوب إيغاد، وهو أمر يجب علينا التوقف عنده قبل اتخاذ أي خطوة أخرى للفهم على ما هي أثيوبيا ومراجعة وضعيتنا في الاتحاد الأفريقي وعضويتنا في إيغاد