أخبار
انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس للمناخ.. هل ستدفع أفريقيا الثمن؟

في خطوة مثيرة للجدل، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 20 يناير 2025 أمرًا تنفيذيًا يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ. وتأتي هذه الخطوة استكمالًا لسياسات سابقة انتهجتها الإدارات الأمريكية المختلفة؛ حيث شهدت العقود الأخيرة تأرجحاً بين الانخراط في الاتفاقيات البيئية والانسحاب منها، بدءاً من دعم جورج بوش الأب للأجندة البيئية في قمة الأرض في ريو عام 1992، إلى رفض مجلس الشيوخ بالإجماع التصديق على بروتوكول كيوتو خلال فترة بيل كلينتون، ثم الانسحاب الأول من اتفاقية باريس خلال رئاسة ترامب الأولى، تلاه إعادة الانضمام في عهد جو بايدن عام 2021.
وتهدف اتفاقية باريس للمناخ، التي تم تبنيها في 12 ديسمبر 2015 خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP21) في باريس، إلى تعزيز الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ من خلال الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، مع السعي لتحقيق زيادة لا تتجاوز 1.5 درجة مئوية.
ودخلت الاتفاقية حيّز التنفيذ في 4 نوفمبر 2016 بعد مصادقة عدد كافٍ من الدول عليها، وتلتزم بموجبها كل دولة بوضع أهداف وطنية طموحة لخفض الانبعاثات وتقديم تقارير دورية عن تقدمها. ورغم أن الاتفاقية ليست ملزمة قانونيًا من حيث العقوبات، إلا أنها تعتمد على آليات الشفافية والمساءلة لدفع الدول إلى تحقيق التزاماتها.
الولايات المتحدة، باعتبارها ثاني أكبر مُصَدِّر لانبعاثات الكربون عالميًا، لعبت دورًا مهما في الاتفاقية؛ إذْ قدمت تعهدات بتمويل الجهود المناخية الدولية والمساهمة في آليات دعم الدول النامية مثل صندوق المناخ الأخضر. غير أنّ السياسة المناخية الأمريكية شهدت تقلبات حادة تبعا للتوجهات الحزبية؛ حيث دعمت إدارة أوباما الاتفاقية ودفعت نحو تنفيذ التزاماتها، في حين شهدت فترة ترامب الأولى انسحابًا منها في 2017، قبل أن يعيد بايدن الانضمام رسميًا في 19 فبراير 2021.
الآن، مع الانسحاب الجديد، من المقرر أنْ يصبح القرار ساري المفعول رسميًا في 27 يناير 2026، مما يعيد خلط الأوراق على المستوى الدولي ويضع مستقبل الاتفاقية أمام تحديات جديدة.
ولهذه الأهمية، عزم فريق أفروبوليسي إلى تقديم تحليل سريع لتداعيات انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومدى تأثيره على المشهد العالمي، مع التركيز على القارة الأفريقية والتوازنات السياسية والاقتصادية الدولية.
ولتحقيق ذلك، يمكن التركيز على خمسة محاور رئيسة. أولًا، تأثير القرار على تمويل المشاريع المناخية في الدول النامية، حيث قد تواجه تحديات في تأمين الدعم المالي اللازم. ثانيًا، انعكاساته على دور المؤسسات المالية الدولية في دعم التحول الطاقي، مما قد يعيد تشكيل سياسات التمويل المناخي. ثالثًا، تأثيره على المفاوضات المناخية المستقبلية والتزامات الدول الأخرى، إذ قد يؤدي إلى تراجع الحماسة العالمية تجاه تنفيذ الاتفاقية. رابعًا، التحولات المحتملة في السياسات المناخية للدول الكبرى واستجابة القوى العالمية لهذا التطور. وأخيرًا، تأثير القرار على التعاون الإقليمي داخل القارة الأفريقية في مواجهة التغير المناخي، وما إذا كانت الدول الأفريقية ستتمكن من تعزيز استراتيجياتها البيئية بشكل مستقل.
أولا: تداعيات الانسحاب على تمويل المشاريع المناخية في الدول النامية
يُعتبر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ضربة كبيرة لتمويل المشاريع المناخية في الدول النامية. ففي عام 2025، تعهدت الدول المتقدمة خلال مؤتمر الأمم المتحدة في باكو بزيادة تمويل المشاريع المناخية إلى 300 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2035. فمع انسحاب الولايات المتحدة، التي كانت مساهمًا رئيساً في هذا التمويل، يواجه هذا التعهد خطر عدم التنفيذ، مما يضع الدول النامية في موقف صعب لتأمين الموارد اللازمة لمواجهة التغير المناخي.
تاريخيًا، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريا في دعم صندوق المناخ الأخضر؛ حيث تعهدت سابقًا بتقديم 3 مليارات دولار. فمع انسحابها، يتوقع تقليص كبير في موارد الصندوق، مما يؤثر سلبًا على قدرات الدول النامية في تنفيذ مشاريع التكيف والتخفيف من آثار التغير المناخي. هذا النقص في التمويل قد يؤدي إلى تأخير أو إلغاء العديد من المشاريع الحيوية في هذه الدول.
بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى تقليص التمويل المخصص للأبحاث المناخية، مما يحد من قدرة المجتمع العلمي على تقديم حلول مبتكرة لمواجهة التحديات المناخية. هذا التأثير يمتد إلى المؤسسات الأكاديمية والبحثية في الدول النامية، التي تعتمد بشكل كبير على الشراكات والتمويل الدولي لتعزيز قدراتها البحثية.
ثانيا: التأثير على دور المؤسسات المالية الدولية في دعم التحول الطاقي
انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية يضع المؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أمام تحديات جديدة في تمويل ودعم مشاريع التحول الطاقي. حيث كانت الولايات المتحدة من أبرز المساهمين في هذه المؤسسات، ولها تأثير كبير على سياساتها التمويلية. فمع الانسحاب، قد يتغير هذا التأثير، مما يثير تساؤلات حول استمرارية الدعم المالي للمشاريع المناخية.
لقد شهدت هذه المؤسسات تحولات في سياساتها استجابةً للتغيرات في القيادة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، خلال إدارة ترامب الأولى، تم تعيين ديفيد مالباس، المعروف بتشكيكه في التغير المناخي، رئيسًا للبنك الدولي، مما أثار مخاوف بشأن التزام البنك بتمويل المشاريع المناخية. ومع الانسحاب الحالي، قد تواجه هذه المؤسسات ضغوطًا لإعادة تقييم أولوياتها التمويلية، وهذا سينعكس على سياساتها التمويلية المختلفة.
علاوة على ذلك، قد يؤدي الانسحاب إلى تقليص التمويل المقدم من الولايات المتحدة لهذه المؤسسات، مما يضعف قدرتها على دعم مشاريع التحول الطاقي في الدول النامية. هذا النقص في التمويل قد يدفع هذه الدول للبحث عن مصادر تمويل بديلة، مما قد يزيد من تعقيد جهودها في التحول نحو الطاقة النظيفة.
ثالثا: انعكاسات القرار على المفاوضات المناخية المستقبلية والتزامات الدول الأخرى
إنّ انسحاب الولايات المتحدة قد يؤثر بشكل مباشر على ديناميكيات المفاوضات المناخية الدولية. فباعتبارها ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الكربون عالميًا، كان لالتزامات الولايات المتحدة دور حاسم في تشكيل الأهداف العالمية للحد من التغير المناخي. ومع انسحابها، قد تشعر دول أخرى بضغط أقل للالتزام بتعهداتها، مما يهدد بتقويض الجهود الدولية المشتركة.
لقد شهدت المفاوضات المناخية في السنوات السباقة تأثيرًا كبيرًا للسياسات الأمريكية. فعلى سبيل المثال، عندما انسحبت الولايات المتحدة من بروتوكول كيوتو في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ضعُفتْ فعالية البروتوكول، وتأخير تنفيذ العديد من السياسات المناخية. فالانسحاب الحالي قد يؤدي إلى تأثير مشابه؛ حيث قد تتردد بعض الدول في تنفيذ التزاماتها دون وجود التزام أمريكي واضح.
بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الانسحاب إلى تعزيز مواقف الدول المتشككة في جدوى الاتفاقيات المناخية أصلاً، مما يزيد من صعوبة تحقيق توافق دولي حول سياسات مناخية فعّالة. هذا التحدي يتطلب من الدول الأخرى تعزيز تعاونها وتأكيد التزامها بالاتفاقيات المناخية لتعويض الغياب الأمريكي.
رابعا: التحولات المحتملة في السياسات المناخية للدول الكبرى واستجابة القوى العالمية
انسحاب الولايات المتحدة قد يدفع الدول الكبرى الأخرى إلى إعادة تقييم سياساتها المناخية. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، قد يسعى لتعزيز ريادته في مجال السياسات المناخية من خلال تبني أهداف أكثر طموحًا وتقوية تشريعاته البيئية. هذا التوجه قد يهدف إلى ملء الفراغ القيادي الذي خلفه الانسحاب الأمريكي.
من ناحية أخرى، قد ترى دول مثل الصين فرصة لتعزيز نفوذها الدولي من خلال تكثيف استثماراتها في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الخضراء. تاريخيًا، استغلت الصين مثل هذه الفرص لتعزيز مكانتها كقائد عالمي في مجالات متعددة، وقد يكون المجال المناخي ساحة جديدة لتحقيق هذا الهدف.
ومع ذلك، قد يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى تعقيد التعاون الدولي في مجالات البحث والتطوير المتعلقة بالتكنولوجيا النظيفة، حيث كانت الولايات المتحدة شريكًا رئيسيًا في العديد من المبادرات الدولية. هذا التحدي يتطلب من الدول الأخرى تعزيز شراكاتها وتكثيف جهودها لضمان استمرار التقدم في هذا المجال.
خامسا: تأثير القرار على التعاون الإقليمي داخل القارة الأفريقية في مواجهة التغير المناخي
قد يُشكّل انسحاب الولايات المتحدة تحديّاً كبيراً للتعاون الإقليمي في أفريقيا لمواجهة التغير المناخي. فالعديد من المبادرات الإقليمية تعتمد على الدعم المالي والتقني من الدول المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومع تقليص هذا الدعم، قد تواجه هذه المبادرات صعوبات في تنفيذ مشاريعها وتحقيق أهدافها.
إنّ غياب التمويل الأمريكي قد يدفع الدول الأفريقية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها البيئية، مما قد يؤدي إلى تباطؤ بعض المشاريع المناخية الكبرى. البرامج الإقليمية مثل مبادرة الطاقة المتجددة في أفريقيا التي تعتمد على دعم دولي قد تتعرض لضغوط مالية تعيق تنفيذها بالشكل المطلوب. هذا يتطلب من الحكومات الأفريقية البحث عن بدائل تمويلية، سواء من الشراكات مع الصين والاتحاد الأوروبي أو من خلال آليات تمويل إقليمية جديدة.
كما أنّ التحديات المالية قد تؤثر على التعاون بين الدول الأفريقية نفسها؛ حيث قد تلجأ بعض الدول إلى سياسات أكثر انفرادية في مواجهة التغير المناخي بدلاً من نهج التعاون الإقليمي المشترك. قد ينعكس هذا على كفاءة السياسات البيئية المتبعة ويحد من قدرة القارة على التعامل مع الظواهر المناخية المتزايدة مثل الجفاف والتصحر. في ظل هذه المتغيرات، يصبح تعزيز التعاون داخل القارة أمرًا ضروريًا للحفاظ على استمرارية المشاريع البيئية الكبرى.
الخلاصة
على الرغم من التأثيرات المحتملة للانسحاب الأمريكي على الجهود المناخية العالمية، فإن القارة الأفريقية، التي تسهم بأقل نسبة من الانبعاثات الكربونية مقارنة بالقارات الأخرى، قد لا تكون الأكثر تضررًا من حيث التأثيرات المباشرة. إلا أن ما يفرض تحديًا حقيقيًا هو مدى قدرة الدول الأفريقية على تعزيز استراتيجياتها الذاتية لتطوير الطاقة المتجددة وتمويل مشاريعها البيئية بعيدًا عن الاعتماد على القوى الكبرى.
وفي ظل هذا الواقع، يجب على صانعي القرار في أفريقيا تبني نهج جديد يعتمد على تعزيز التعاون البيني داخل القارة، وتطوير آليات تمويل محلية وإقليمية لمشاريع المناخ، بدلًا من التعويل على التمويل الخارجي غير المستقر. فالأولوية تكمن في تحقيق استقلالية أكبر في السياسات البيئية، مما يعزز قدرة القارة على مواجهة التحديات المناخية بفعالية واستدامة.