أخبار
رفض السودان العودة إلى منبر جدة التفاوضي: قلق أمريكا وعودة روسيا إلى سواحل البحر الأحمر
اتصل وزير الخارجية الأمريكي بالفريق البرهان اتصالاً استمر لنصف ساعة حسب مصادر مؤكدة، دار فيها الحديث حول مسار العلاقات الثنائية بين البلدين كما تطرق الاتصال إلى ضرورة العودة إلى منبر جدة فوراً لبحث إيقاف الحرب واستئناف المفاوضات والمسار السياسي، إضافة إلى الحديث حول أهمية فتح المسارات لإيصال المساعدات الإنسانية، وإيقاف الحرب في مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور.
ملاحظات تأسيسية
- حاولت الولايات المتحدة الأمريكية توسيع منبر جدة بإشراك مؤسسات إفريقية مثل الاتحاد الإفريقي والإيغاد ومؤخرا الامارات العربيبة المتحدة وهذا فاقم الأزمة بدلاً من العمل على تسهيل عملية التفاوض.
- كان آخر الحوارات التي تمت فيها منقشات جادة هو لقاء مايو 2023 والتي اتفق فيها إلى جانب تأمين وتسهيل المسارات الإنسانية على خروج قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان المدنية الأخرى، ولم يجد الاتفاق طريقه للتنفيذ.
- زار السودان في أبريل 2024 نائب وزير الخارجرية الروسي ومبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف إلى العاصمة السودانية المؤقتة بورتسودان على رأس وفد من وزارتي الخارجية والدفاع.
- مشاركة مدير جهاز المخابرات السوداني الفريق أحمد إبراهيم مفضل في الاجتماع الدولي الثاني عشر لمسؤولي الأجهزة الأمنية في موسكو
- عدوة العلاقات السودانية الإيرانية بسرعة إلى مستوى متقدم من التعاون في المجالات العسكرية بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية منذ 2014، تحت ضغوط خليجية فُسرت حينها أنها قرارات أمريكية محضة.
التحليل
لم يصرح الفريق البرهان بعد مكالمة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، غير الإعلان عن المكالمة وعناوينها الرئيسية، ولكن في اليوم التالي للمكالمة، وجه نائب رئيس مجلس السيادة الفريق مالك عقار إير نقدا لاذعا ورفضا قاطعاً للعودة إلى منبر جدة وقال بالحرف “أننا لن نذهب إلى جدة ولا إلى جدادة” فما هي سياقات الحدث ولماذا ارتفعت لهجة السودان ضد الولايات المتحدة الأمريكة هذه المرة، فهل يمارس السودان ضغوطاً من أجل الضغط على حلفاء الدعم السريع وداعميه، ام يضع حدا لأي تعاون قريب معها ؟ هذا ما نحاول تحليله من زواياه المختلفة وفي أبعاد رئيسية.
العلاقات الأمريكية السودانية المتأرجحة
منذ سقوط حكومة البشير الأخيرة في أبريل 2019، لعبت الولايات المتحدة أوراقها المتعددة مستفيدة من سقوط أقوى خصومها في المنطقة وهو النظام المدعوم من الحركة الإسلامية، وقامت يجهود ومساع حثيثة عبر وكلائها في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل وبعض الدول العربية التي أصبحت رأس الرمح في المسرح السوداني ما بعد الانقاذ، في محاولة تشكيل سودان جديد، واقتلاع الدولة العميقة، ساعدها وجود لاعبين محليين يبحثون عن دور لهم في قيادة البلاد، ولكن قادت كل تلك الجهود إلى المشهد الحالي.
حاولت جمع الفرقاء في منبر تفاوضي بمساعدة المملكة العربية السعودية التي استضافت عدد من اللقاءات في جدة، ولكن ما تؤكده التقارير وآراء المختصين هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تول الأمر ما يستحقه من جهد في ظل اشتعال حربها مع روسيا على الأرض الأوكرانية، وأخيرا انخراطها في حرب المقاومة في غزة اسنادا لحليفتها وقاعدتها المتقدمة إسرائيل، فضلا عن اتهامات سودانية غير رسمية بأنها مع استمرار الحرب في السودان من أجل إضعافه أو حى تقسيمه.
قلق أمريكي يتجدد
بذلت الولايات المتحدة ضغوطا دبلوماسية هائلة بل تصل إلى حد التهديد على الحكومة الانتقالية وفق بعض المصادر من أجل إيقاف الاتفاق المبدئي الذي وقعه الرئيس السابق المشير البشير في أواخر عهده لمنح روسيا موطئ قدم في البحر الأحمر قد ترقى إلى قاعدة عسكرية، ونجحت في ذلك، ولكن الدبلوماسية الروسية في إفريقيا تصر على استمرار نجاحها، وها هي تطورات الحرب الميدانية في السودان تحقق لروسيا ما تسعى إليه، فخرجت مسودة الاتفاق الروسي السوداني لتفاجأ الدبلومسية الأمريكية المنشغلة بعدد من الأجندة، وتصبح القاعدة أمراً واقعاً.
وتفسر بعض النخب السودانية السلوك الأمريكي الفاتر وعدم حماستها للضغط في مسار البحث عن الحلول هو فشلها في صناعة حليف قوي يُعتمد عليه في تشكيل المشهد السياسي السوداني ما بعد الإنقاذ وعودة الإسلاميين بشكل أو بآخر باعتبارهم طرفاً أساسيا في الحرب، وهو ما خلط أوراقها ودفعها في التراجع خطوة، في انتظار المنتصر في الحرب ومن محاولة صياغة رؤية للتعامل معه.
العلاقات السودانية الروسية
بعد تعثر الاتفاق الأول بشأن القاعدة قرب ميناء بورتسودان، أوكلت روسيا رعاية كثير من مصالحها في السودان كما في عدد من الدول الإفريقية إلى مجموعة فاغنر وصاحبها الراحل بريغوزين، وبحكم اهتمام الروس بالمعادن، فقد كانت العلاقة بين فاغنر والدعم السريع أكثر متانة منها مع الجيش، ولذلك لم تكن الأوضاع في الوضع المثالي على المستوى الدبلوماسي ولكن دون أن تنقطع العلاقة بين الطرفين، ومع التحولات الميدانية في الحرب، والتغييرات التي طرأت على فاغنر ذاتها، بذلت الدبلوماسية جهدا في تصحيح الأوضاع، فعادت العلاقات واعترفت روسيا بالمجلس السيادي كممثل للسيادة السودانية، وتم فتح ملف المصالح الثنائية وعاد مطلب روسيا في تنشيط قضية القاعدة” مركز لوجستي” للأسطول الروسي وبالمقابل يحصل السودان على تسليح متقدم فضلا عن تجديد المعدات الروسية القديمة بالضرورة لأن أغلب العتاد السوداني مصدره روسيا.
عامل آخر ربما يزيد حرص الروس على ترتيب أوراقها في السودان، وهو عدوة الأوكرانيين، حيث نشر موقع “مليتري أفريكا” Military Africa تقريرا نسبه إلى شبكة السي إن إن CNN أشار إلى قوات أوكرانية خاصة تقاتل مرتزقة فاغنر في السودان بالطائرات بدون طيار، هذا فضلا عن تعيين أوكرانيا سفيرا لها في العاصمة المؤقتتة بورتسودان.
مصالح روسيا أبعد من مركز لوجستي
لعل ما يقلق الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا لا ينحصر في المركز اللوجستي فقط رغم أهميته فقد ظلت روسيا تبحث عن تواجد لها في البحر الأحمر منذ 2017، ولكنها تعبد طرق الوصول من وإلى إفريقيا مواقع نفوذها، فمنطقة الساحل والصحراء تكاد أن تكون كلها تحت السيطرة الروسية، وآخرها تشاد التي زراها لافروف في الأسبوع الأول من يونيو الجاري ووقع عددا من الاتفاقات الأمنية والعسكرية إلى جانب اتفاقات أخرى معها لتصبح آخر القلاع التي تنضم إلى ركب روسيا، ولذلك فإن قضية القاعدة في الحبر الأحمر ما هي إلا استكمال لمشروع النفوذ الروسي في إفريقيا، كما أنه ليس من مصلحة روسيا أن يبقى السودان خارج إطار تحالفاتها، حتى لا يعيق تمددها وتحقيق استراتيجيتها الإفريقية الجديدة.
الموقف السوداني والبحث عن مصالح وتوازنات
لم يكن مستغربا الموقف السوداني الرافض للأوامر الأمريكية كما وصفها البعض للعودة إلى منابر تفاوضية، ذلك لأنه يشكل نتاج لتراكمات الغضب السوداني، من المواقف الأمريكية التي يُنظر إليها على أنها تعقد الأزمة أكثر بدلا من حلها وتاسس هذا الموقف لعدد من العوامل:
- المواقف الأمريكية السابقة ضد القوات المسلحة السودانية والتي سعت عبر عدد من القرارات إضعافه بل والتماهي مع توجهات المبعوث الأممي الداعية إلى حله بالتنسيق مع فاعلين من الداخل والخارج
- عدم جدية الوساطة الأمريكية منذ بداياتها، وقد افتقدت ابتداءا إلى بناء التصورات والمقترحات الموضوعية والمفضية إلى حل للأزمة وفقدانها لآليات تنفيذ اي اتفاق يتم التوصل إليه، فضلا عن عدم ممارستها أي ضغوط على الاتحاد الإفريقي لأخذ الأمر على محمل الجد.
- رغم التقارير الدولية التي وثقتها عدد من المؤسسات الأممية أو الأرووبية والأمريكية، للانتهاكات التي قامت بها قوات الدعم السريع والتي قد ترقى حسب بعض بعض المؤسسات الحقوقية إلى التطهير العري في بعض الولايات السودانية، إلا أن تفاعلها في معاقبة مرتكبي تلك الجرائم كان دون المتوقع، إضافة إلى توافر أدلة على دعم دول إقليمية للدعم السريع عبر دول الجوار ولم تجد الشكاوى السودانية أذنا لها في واشنطن فكان رد الفعل الطبيعي البحث عن أصدقاء جدد.
- حاجة الجيش السوداني إلى عتاد يواجه به إدراة معركته المفتوحة مع خصم لا يتوقف إمداده عبر حوالي 5 دول تحيط بالسودان، فهو بحاجة إلى عتاد متقدم ونوعي لحسم المعركة، ففي ظل وجود إمكانية روسيا لتقديم السلاح وانعدام البدائل الأخرى، كان من الضروري أن يعيد السودان صياغة علاقاته من جدبد مع روسيا
- البعد الاقتصادي يشكل ركنا مهما في المقاربة السودانية الجديدة، حيث يعاني الاقتصاد السوداني تراجعا مريعا في ظل توقف عجلة الانتاج وتوظيف القدر الضئيل المتوفر للمجهود الحربي، إضافة إلى حاجة السودان للبترول بشروط ميسرة وهو ما يتفر لدى الروس وبوفره.
- ربما ذهبت تقديرات القيادة السودانية كذلك إلى أن أهم أسباب الحرب الحالية هو اختلال التوازن الدولي والإقليمي في علاقاته الدبلوماسية والمصالح المترتبة على ذلك، وأن السياق ذاته بحاجة إلى فاعلين متعددين قد يحتاجهم المسرح السياسي عند الجاجة إليه، ونقصد هنا البحث عن الحلول السياسية ذاته بحاجة إلى توازن، فوجود أكثر من فاعلين من الأوزان الثقيلة لا شك سيصب في مصلحة السودان.
الموقف السوداني وتصحيح المسار
تلاقت حاجة الطرفين لتقوية العلاقات، فروسيا عادت إلى إفريقيا بعد 2014 والسودان قطع علاقاته المهمة مع إيران الحليف الذي دعم السودان عسكريا ولعب دورا مهما في تطوير منظومته العسكرية، وكانت القاصمة التي ادت إلى مزيد من تدهور أوضاع حكومة البشير، فالتقط الطرفان اللحظة المناسبة لعقد اتفاق يحقق للجيش السوداني تسليحاً يمكنه من هزيمة الدعم السريع، ودعما دبلوماسيا في المحافل الدولية وربما يكون مدخلا كذلك للجم بعض حلفاء روسيا والذين يعملون لصالح الدعم السريع.
حاولت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وفي تزامن متفق عليه تسويق فزاعة حرب شاملة تتجاوز الحدود وحالة من القلق من خلال التهديد بالمستقبل الذي ينتظر السودان إذا لم يذهب البرهان إلى جدة ويوقع على إيقاف الحرب، وتزامنت التصريحات مع اتصال بيلنكن مع الفريق البرهان، وجاء في مقابلة المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريليو خشيته من تحول الحرب في السودان إلى حرب إقليمية شاملة وتصور سيناريو أسوأ من سيناريو الصومال قبل حوالي 25 عاما، واضاف يمكن أن تتطور الحرب من حرب فيها طرفين إلى حرب فيها ثمانية أطراف، وقال يمكن أن تكون أسوأ من ليبيا لينتهي إلى أن محادثات الاسلام أصبحت أكثر إلحاحا.
أما مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي حذر من تطورات قادمة لم يفصح عن طبيعتها وقال أن الحرب تشكل خطرا على أمن البحر الأحمر، وهي إشارة واضحة إلى القاعدة الروسية، وربما يحمل مخططا لتوسيع رقعة الحرب بتوجيه بعض الفصائل المسلحة التي تعمل تحت إمرة المخبرات الغربية.
سيكون للرفض السوداني للعودة لمنبر جدة التفاوضي، تأثير كبير على مسار المعركة العسكرية والصراع السياسي في السودان، وربما نشهد مزيدا من التراجع الأمريكي في السودان ومحيطه ومزيدا من الحضور الروسي، وهو عامل تحكمه عناصر أخرى في ميادين أخرى تتخادم بشكل أو بآخر مع مايجري في إقليم الساحل والصحراء.