أبدى مختصون وخبراء آثار مخاوف كبيرة من أن يفقد السودان واحدة من أغنى المناطق الأثرية في البلاد بسبب العبث الذي يطال مواقع تاريخية مهمة في جزيرة “صاي”؛ الواقعة على بعد نحو 720 كيلومترا إلى الشمال من العاصمة الخرطوم.
وتسببت أنشطة تعدين وتنقيب “عشوائية” و”منظمة” في أعمال تخريب واسعة النطاق طالت آثار يعود تاريخها إلى العصر الحجري القديم، حيث تتناثر في العراء على طول الجزيرة البالغة مساحتها نحو 60 كيلومتر مربع؛ بقايا عظام وقطع فخار ذات قيمة أثرية كبيرة.
وكشفت تقارير عن عمليات تهريب وسرقات كبيرة طالت العديد من القطع الأثرية والأدوات الخاصة بالطقوس مثل المباخر وأواني الطعام والشراب المصنوعة من الفخار والمجوهرات وغيرها من القطع الأثرية القيمة.
وعبر المختصون عن استياءهم الشديد من الإهمال الكبير الذي يطال الجزيرة التي عاشت فيها أقدم السلالات البشرية في العالم، وفقا لما أكده عالم الوراثة الإيطالي ليوجي سفوروزا في كتابه “الإنسان في الشتات”.
وفي ذات السياق، أشارت بعثة تنقيب فرنسية عملت في الجزيرة منذ العام 1904، إلى أنها حصلت على أدلة تؤكد التواجد البشري في الجزيرة منذ آلاف السنين.
منطقة غنية
يعتبر شمال السودان من أكثر مناطق العالم ثراءً في مجال التراث الأثري حيث تقف المواقع الأثرية شاهدة على تواصله الحضاري بدءاً بعصور ما قبل التاريخ وحتى العصرين المسيحي والإسلامي.
وتذخر جزيرة صاي بالعديد من المواقع الأثرية الدينية والمدنية والجنائزية التي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة، ففي موقع على سفح الجبل الوحيد الموجود بالجزيرة توجد آثار يعتقد أن عمرها يصل إلى أكثر من 500 ألف سنة وتضم بقايا ثمان مساكن بشرية تشير إلى أن الجزيرة كانت مكانا لأقدم المستوطنات البشرية.
ويحتل المعبد الفرعوني في صاي الذي بناه الملك أحمس لزوجته نفرتاري موقعاً استراتيجياً حيث يطل على النيل مباشرة وعثر فيه على مجموعة هامة من ودائع أثاثات الأسرة الثامنة عشرة. وظلت صاي واحدة من أهم المراكز الفرعونية في منطقة النوبة، وهي الوحيدة التي توجد فبها وثائق الفراعنة من الأسرة الثامنة عشر إلى العشرين.
عبث كببر
وفقا لشادية عبدربه المختصة في الآثار والمهتمة بمجال حماية تاريخ المنطقة، فإن ما تشهده المنطقة من عبث يهدد بفقدان السودان ثروة أثرية ذات مدلولات تاريخية فريدة، حيث تعكس حضارات عمرها آلاف السنين.
وتقول عبدربه إن هذه المنطقة مرشحة للدخول في قائمة اليونسكو للتراث العالمي وظلت لعقود من الزمان محل اهتمام خبراء الآثار. وتبدي عبدربه مخاوفها من إن يؤدي العبث الحالي بالمواقع التاريخية الموجودة في المنطقة إلى إتلاف وإبادة معظم الموجودات الأثرية المهمة.
وتحتوي صاي على أحد أهم جبانات الأسرة الخامسة والعشرين والفترة النبتية عامة. وتعرف آخر أسرة مسيحية كانت تعيش في الجزيرة باسم “ياسكي”؛ حيث توجد حتى الآن أعمدة الكاتدرائية المسيحية المنحوتة من الجرانيت الرمادي في منطقة مغطاة ببقايا الطوب المحروق وقطع الفخار في موقع يسمى “دلقج”.
تدمير واسع
يأتي الخراب الذي تتعرض له آثار جزيرة صاي كجزء من مخاطر كبيرة تواجه آثار حضارة “كوش” في شمال السودان والتي تعتبر واحدة من أقدم الحضارات في العالم، حيث تتعرض الكثير من المواقع الأثرية في المنطقة للتخريب بفعل عوامل بشرية وطبيعية.
وتقع الحضارة الكوشية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين في قلب منطقة النوبة الممتدة من شمال مدينة كرمة على طول نحو 500 كيلومترا جنوبا.
وكانت منطقة كوش من أقدم الحضارات العالمية التي عرفت نظام الحكم بشكله الحديث الحالي؛ وعرفت قبل 5 آلاف سنة بالدولة القوية؛ واشتهرت كمركز ثقافي وعسكري رئيسي في العالم.
ويعتقد على نطاق واسع أن المواقع الأثرية الحالية لحضارة كوش تضم آثارا لها أهمية تاريخية كبيرة، إضافة إلى ثروات ضخمة من الذهب والعاج والنحاس واللبان وخشب الأبنوس والفخار. لكن التوسعات الزراعية والسكانية التي شهدتها المنطقة خلال العقود الأخيرة شكلت مهددا حقيقيا لآثار وثروات تقدر قيمتها الفعلية بمليارات الدولارات ويمكن أن تجعل من المنطقة إحدى أهم الوجهات السياحية في العالم.
وإضافة إلى التعديات البشرية، فقد دفنت الرمال المتحركة بفعل الزحف الصحراوي الواسع الذي تشهده المنطقة، العشرات من الألواح الأثرية عالية القيمة.
وتشتمل تلك الألواح على كتابات يعتقد أن تتبعها يمكن أن يقود إلى تحول كبير في الاستكشافات المتعلقة بتاريخ الكتابة. كما غمرت الفيضانات والسيول التي تعاقبت على المنطقة عدة مرات خلال العقود السبع الماضية الكثير من المواقع الأثرية المهمة.
وشهدت الفترة الأخيرة توسعا كبيرا في مجال التعدين عن الذهب الأمر الذي أضر كثيرا بالمواقع الأثرية التاريخية. وإضافة إلى التعدين تأثرت المواقع التاريخية في شمال السودان بالتوسع السكاني والزراعي.
واعتبر يحي فضل استاذ التاريخ في الجامعات السودانية أن تضافر العوامل الطبيعية والبشرية يشكل خطرا حقيقيا على آثار الحضارة الكوشية.
وأضرت الأنشطة البشرية وعوامل الطقس والزحف الصحراوي والتوسع السكاني والزراعي بالكثير من المواقع الأثرية المحيطة بمنطقة كرمة”. ويرى فضل أن من الضرورة اتخاذ ما يلزم من إجراءات فنية وإدارية سريعة للحفاظ على هذه الحضارة التي تعتبر واحدة من أهم الحضارات الإنسانية في العالم.
المصدر : سكاي نيوز عربية